مدونات
الكاتب: مصطفى نصار
نظرية الرجل المجنون: فشل ممتد من فيتنام لإيران.
في ضربته المفاجئة على إيران، لجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى استخدام عدة قنابل رئيسية بمجمل ٣٠ طنًا من المتفجرات دون قيمة حقيقية على الأرض في القضاء على المشروع النووي الإيراني، لكن الأهم من ذلك فعل ترامب نفسه الذي وُصف بأنه مختل أو مجنون، في حقيقة الأمر لإيفاء حق عقلية ترامب ما يثير تساؤلًا شرعيًا حول نظرية سياسية يسير على نهجها ريتشارد نيكسون، حتى أدت لخسارة فادحة في حرب فيتنام بصورة متجاوزة حتى الحرب العالمية الثانية.
فتلك النظرية التي انتهجها نيكسون في الحرب طيلة فترته الرئيسية كانت مكلفة بصورة كبيرة، حتى استنزفت ٢٥٠ ألف جندي بخسائر اقتصادية نازفة وصلت، في بعض التقديرات الأولية، لما يناهز ٥ مليار دولار في فترة تربو على ٨ سنوات، منتهجًا نفس السياسة المتسارعة التي صيغت في نظرية خصيصًا للسياسات الهوجاء التي لا رأس لها، ولا رؤية محددة لها، لتسقط سريعًا في تبعات كارثية تنتهي فقط لصالح من شُن عليه الهجوم، ما شكل معضلة مغلقة مفادها أن النتيجة الوحيدة لتلك الحروب إما الهزيمة النكراء أو اللجوء للتفاوض تحسبًا لتفادي وقوع هزائم إضافية في صفوف الجنود على مختلف المستويات، منها المعنوي والنفسي.
يمتلئ هذا النهج السياسي بعوار عميق مثير لإشعال الساحة، سواء على مستوى السياسة الدولية أو العسكرية المطبقة، مع جعل غير المتوقع متوقعًا، والممنوع مرغوبًا، حتى لو اعترض عليه أعتى المحللين السياسيين خبرةً وكفاءةً، ما يشكك في قيمة الدولة باعتبارها دولة، والولايات المتحدة تحديدًا باعتبارها ديمقراطية، لكن على الأرجح أن الجنون والتسارع العشوائي يُفكّك موثوقية الدستور الأمريكي نفسه، فضلًا عن تعرية مطلقة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية التي تعتمد على الكم والتقنية أكثر من دراسة الفنيات الدقيقة التي تتخطى موازين القوى العسكرية، مثل احتمالية الردع وأثر الجغرافيا على الاستراتيجية والمعرفة النفسية للمحارب.
فبغضّ النظر عن مدى القوة العسكرية، فإن هذه القواعد العسكرية مع العقيدة السياسية الخاصة بـ”الرجل المجنون” لا لشيء، لكن لإغفالها البعد الاستراتيجي الذي يسمح بإكمال المعركة بشكل طويل النفس والمدى، خلافًا لمعارك البلدان المناهضة لأمريكا والكيان الإسرائيلي نفسهما، الفائزة عليهما حسب اختلاف الفترة الزمنية والتاريخ الممتد للحرب ذاتها، وعلى رأسها فيتنام وأفغانستان اللتان أذاقتا الولايات المتحدة تبعات كارثية عليها، لأن ببساطة بناء الاستراتيجية القتالية لا يعتمد على مدى ضخامة أو اتساع الهجوم أو الأسلوب المُروّج له، ولعل هذه هي الأساسيات الضائعة من العقلية الإمبريالية الأمريكية المحبة للسيطرة القسرية، فتلك استراتيجية “مغلقة عسكريًا” بحد تعبير الأستاذ الفخري في كلية الملك بجامعة لندن، لورانس فريدمان.
فعلى غرار نيكسون، اتبع جورج بوش الابن نفس السيناريو، بنفس التفاصيل، بنفس الخطاب، بجمله الرنانة، لكن النهاية لم تكن سارة له مطلقًا. “تحرير” العراق لم يكتمل بغزوه، وكذلك أفغانستان لم تتنفس عندما جاءت الولايات المتحدة لإزالة “الإرهاب الإسلاموي” من السلطة، والآن مع تفكيك البرنامج النووي الذي كان المسبب الأول في وجوده من الأساس، تحيط بتلك المحاولات الكثيرة خيوط ثقيلة من الفشل الممتد، الذي ينتهي إما بإنهاء الاحتلال الفعلي أو بالوكالة، أو الجلوس الإجباري على طاولة المفاوضات، وفقًا لعدة نقاد بارزين للسياسة الأمريكية مثل نعومي كلاين في كتابها “لا إما لا” على سبيل المثال؛ مع اختلاف الوضع الراهن بسيناريوهات مغايرة تمامًا لكل الحروب السابقة.
السيناريوهات الكابوسية: الحرب الترامبية باعتبارها قيامة للعالم.
هناك العديد من السيناريوهات العديدة والاحتمالات الواردة لضربة أمريكا الخادعة على إيران، جميعها سيناريوهات تتخطى حرب العراق الإيرانية والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، ليس فقط لجهل وعدم جدية ترامب، بل لأنه لا يعلم أن خسائر العالم والكيان اللقيط، نظرًا لأن إيران ليست بالسهولة أو البساطة كما الأنظمة العربية القمعية التي تخلّت عن الإبادة الجماعية في غزة مدة عامين، فنظام إيران، رغم ما فعله من جرائم منكرة وبشعة في سورية والعراق واليمن، إلا أنه يظل صلبًا واقفًا، يردّ الصاع صاعين.
وتأكيدًا على ما سبق، تستطيع إيران التلويح بإغلاق المضايق البحرية كباب المندب عن طريق حلفائها المتمثلين في جماعة أنصار الله الحوثي، فضلًا عن إغلاق مضيق هرمز البحري؛ وهكذا إغلاقهم سيسبب شللًا تامًا للتجارة العالمية وكسادًا اقتصاديًا عالميًا قد يمس الاقتصاديات بكارثة محققة ومخيفة، مع ارتفاع الأسعار بنسبة تتراوح من ١٥٪ إلى ٣٠٪، ما يرفع أسعار النفط كذلك بنسبة تقدر بـ٢٠٪، أي أن معاناة العالم من الاقتصاد المدمر ستتحول إلى واقع محقق ومخيف.
أما بالنسبة للسيناريو الثاني، فهو يتعلق بالمصالح الأمريكية في المنطقة، أي الخليج العربي، بقواعده العسكرية الكبرى، مثل قاعدة العديد القطرية وجهرمان الكويتية ومختلف القواعد من شمال الخليج لأقصى جنوبه، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للخليج العربي كما قال الدكتور محجوب الزواري، أستاذ علم السياسة في جامعة قطر، فضلًا عن إيفاء أستاذ علم السياسة الشرق أوسطية، إيام بارميتير، في مقال له مفصل، تتأرجح بين استمرار المفاوضات أو تقهقر الولايات المتحدة للخلف، أو الخيار الثالث الذي يخص تكثيف الضربات الصاروخية على الكيان الإسرائيلي. أي، بعبارة أخرى، تلخص جميع السيناريوهات والخيارات: “أنها خيارات مكلفة وصعبة وكارثية”.
في الختام، مثلت الضربة الأمريكية نوعًا من القنابل عالية الصدى، كثيفة الدخان، من دون حسابات دقيقة، وبغرور وغطرسة ترامب الممزوجة بقمع الأنظمة العربية الباطشة، والذي فجّر فاتورة باهظة الثمن سيكون دفعها علقمًا على العالم نفسه، مع إشعال فتيل الحرب النووية التي لن تترك ولن تذر أحدًا، وسيدفع العرب كلهم ثمنها مرة في تخليهم عن غزة، وترك الكيان الإسرائيلي يعربد بمنتهى الأريحية، ليقف أمام حائط صد شاهق ووعر كالجبال المتعرجة، في رسالة واضحة عن مدى خزي ودناءة الوضع الحالي الذي نعيش فيه.