سياسة
بعد سنوات من إعلان قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة القضاء على تنظيم “داعش” في آخر معاقله ببلدة الباغوز شرق سوريا في آذار/ مارس 2019، تعود خلايا التنظيم لنشاطها داخل البلاد، وقد انتقل مؤخراً من مناطق البادية إلى قلب المدن السورية، مستغلة حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد بعد سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024.
في تطور أمني خطير، أعلنت وزارة الداخلية السورية الأحد الماضي مسؤولية تنظيم “داعش” عن تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق، والذي أودى بحياة 25 مدنياً، إضافة إلى إصابة 63 شخصاً جُلهم من المصلين.
وخلال أقل من 24 ساعة على وقوع الهجوم، أعلنت الوزارة القبض على متزعم خلية التنظيم التي نفذت التفجير، وذلك خلال عمليات أمنية شنتها قوات الأمن في منطقتي حرستا وكفربطنا بالغوطة الشرقية، وأسفرت هذه العمليات عن اعتقال زعيم الخلية و5 من عناصرها، بالإضافة إلى مقتل اثنين آخرين، أحدهما كان مسؤولاً عن تسهيل دخول الانتحاري إلى الكنيسة، فيما كان الآخر يخطط لتنفيذ هجوم جديد في العاصمة.
كما ضبطت القوات الأمنية كميات من الأسلحة والذخائر والألغام والسترات الناسفة، بالإضافة إلى دراجة نارية مفخخة كانت معدة للتفجير، ورغم إعلان السلطات السورية مسؤولية تنظيم “داعش” عن الهجوم، لم يتبنَ التنظيم حتى اللحظة مسؤوليته عن عملية التفجير.
لم يكن هذا التفجير هو الأول الذي تُوجَّه فيه أصابع الاتهام إلى تنظيم “داعش”. ففي 11 كانون الثاني/ يناير العام الجاري 2025، أعلنت وزارة الداخلية السورية إحباط محاولة تفجير استهدفت مقام السيدة زينب في ريف دمشق، ونشرت الوزارة حينها صوراً لأربعة متهمين، ظهروا معصوبي الأعين وأيديهم مقيدة، بالإضافة إلى وثائق لبنانية وفلسطينية تعود لأحدهم.
الباحث في الصراعات بمنطقة بلاد الشام، فراس فحام، قال لموقع “سطور” إن “خلايا تنظيم داعش كانت موجودة في سوريا قبل سقوط نظام بشار الأسد، لكن التطور اللافت حالياً هو انتقال هذه الخلايا من البادية إلى داخل المدن خلال الفترة الأخيرة، ما دفع دول الجوار لسوريا المتمثلة في الأردن ولبنان والعراق وتركيا لتشكيل غرفة عمليات مشتركة تحسباً من عودة نشاط التنظيم”.
وأضاف فحام أن “التنظيم لم يعد يمتلك سيطرة ميدانية كما كان في السابق، لكنه يسعى إلى إعادة إنتاج نفسه من خلال تنفيذ عمليات صادمة مثل استهداف كنيسة مار إلياس لتحقيق أثر إعلامي واسع”.
ويرى فحام أن استمرار نشاط التنظيم يعود إلى “وجود بيئة حاضنة وثغرات أمنية داخل سوريا والعراق، حيث تمر سوريا بمرحلة انتقالية لم تستكمل فيها مؤسساتها الأمنية بعد، فيما تساهم السياسات الطائفية لنظام الحكم في العراق في تغذية التطرف، خاصة على الحدود بين البلدين”.
وأشار فحام إلى أن “استراتيجية داعش في استهداف الكنائس تهدف بشكل رئيسي إلى تحقيق انتشار إعلامي واسع، ما يعزز فرص التنظيم في استقطاب عناصر جديدة”.
في 20 نيسان/ أبريل 2025، بث تنظيم “داعش” بياناً مصوراً هدد فيه الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع إن انضم إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، وذلك بعد طلب رسمي من الولايات المتحدة للحكومة السورية بالمشاركة في الحرب ضد الإرهاب.
وفي الـ 16 من أيار/ مايو 2025، هاجم تنظيم “داعش”، في افتتاحية صحيفته الأسبوعية “النبأ”، الرئيس الشرع، وذلك من خلال مقال حمل عنوان “على عتبة ترامب”، شن فيه هجوماً لاذعاً عليه على خلفية لقائه الأخير بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وحثّ المقال الجهاديين الأجانب على الالتحاق بما وصفه التنظيم بـ “سرايا تنتشر بينكم في الأرياف والأطراف”، محذراً إياهم من أن يكونوا “ورقة يحرقها الجولاني وسيلةً لنيل الرضا الدولي”، في إشارة توحي بوجود خلايا تابعة للتنظيم في مناطق سيطرة الحكومة السورية.
وأكد التنظيم حينها أن جوهر خلافه مع الشرع يكمن في ما سماه “التوحيد مقابل الشرك، والإسلام مقابل الديمقراطية، وبين من سيدهم محمد وسيدهم ترامب، الذي صار لقاؤه وإرضاؤه إنجازاً تاريخياً يحتفل به (الثوريون)، بينما يُترك الشرف في ساحة الأمويين بحجة رفع العقوبات الأمريكية”، مضيفاً: “فمن يرفع العقوبات الإلهية؟”.
وفي 30 أيار/ مايو 2025، أعلن التنظيم مسؤوليته عن أول هجوم يستهدف القوات الحكومية السورية الجديدة منذ سقوط نظام الأسد، حيث فجر عبوة ناسفة استهدفت آلية تابعة للجيش السوري في محافظة السويداء جنوب البلاد، ما أدى إلى مقتل عنصر وإصابة 3 آخرين من الفرقة 70.
بدوره، قال ضياء القدور، الباحث في الشؤون العسكرية والأمنية، لـ”سطور” إن “الجهة المسؤولة عن تفجير كنيسة مار إلياس ما تزال موضع تدقيق رغم إعلان وزارة الداخلية اتهامها لتنظيم داعش، لكن عادة ما تعكس طبيعة الأهداف هوية المنفذين سواء كانوا من داعش أو من أطراف أخرى معادية للدولة السورية الجديدة”.
وأضاف القدور أن “الاختبار الحقيقي للحكومة السورية الجديدة لا يكمن في وقوع هذه الهجمات فحسب، بل في مدى قدرتها على منع تكرارها مستقبلاً” كما أشاد بسرعة استجابة وزارة الداخلية عقب التفجير، معتبراً أن “التحرك الأمني السريع مؤشر إيجابي على قدرة الأجهزة الأمنية في ضبط الوضع الأمني داخل البلاد”.
وأكد أن “القضاء على تنظيم داعش لا يمكن أن يتم بالحلول الأمنية وحدها، بل يتطلب معالجة فكرية وسياسية واجتماعية عميقة لتفكيك جذور التنظيم الفكرية، وهو تحدٍّ يتطلب جهوداً طويلة الأمد”.
منذ هزيمته في الباغوز عام 2019، واصل تنظيم “داعش” شن هجمات ضد قوات النظام السوري السابق في البادية السورية الممتدة من البوكمال بدير الزور حتى بادية السخنة بريف حمص.
كما استهدفت خلايا التنظيم بشكل متكرر عناصر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في مناطق شمال وشرق سوريا (الحسكة، دير الزور، الرقة)، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى من العسكريين والمدنيين، إضافة إلى استهداف المدنيين من رعاة المواشي وجامعي نبات الكمأة في البادية.
وفي مناطق المعارضة السورية السابقة (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) شمال البلاد، نفذ التنظيم عدة هجمات أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى من المدنيين والعسكريين، كما شن عمليات مماثلة في إدلب وأرياف حماة وحلب واللاذقية، والتي كانت سابقاً تقع ضمن مُسمى “منطقة خفض التصعيد الرابعة” (إدلب وما حولها)، شمال غرب البلاد.
رغم الضربات الأمنية التي تتعرض لها خلايا “داعش” بين الحين والآخر، تؤكد المؤشرات على الأرض أن التنظيم ما يزال يمتلك القدرة على تنفيذ هجمات موجعة في مختلف المناطق السورية، مستغلاً حالة الفراغ الأمني الذي تشهده البلاد خلال المرحلة الانتقالية.