مجتمع
– منى عرفات
(بداية – كل التعازي للسوريين عامة، وللمسيحيين خاصة، كل الدعوات بالصبر والرحمة لكل أحد فقد عزيز، وكل شخص ما زال يبحث عن أهله وناسه وسط المصابين.. برد الله على قلوبكم، يا رب ما تكون بادرة سلاسل من التفجيرات، وتكون نهاية نهر الدم اللي ماكان يخلص).
في صيف العام الماضي، جلستُ في إحدى قاعات مهرجان إدنبرة الدولي للكتاب أستمع إلى المؤرخ العراقي الإسرائيلي آفي شلايم، وهو يقدّم شهادة شخصية وتاريخية تهز الروايات المستقرة حول هجرة اليهود من العالم العربي. في كتابه Three Worlds: Memoirs of an Arab-Jew، يعود شلايم إلى طفولته كيهودي عراقي نُزع من بغداد وهو في الخامسة من عمره، ليكتشف لاحقاً أن رحيله القسري لم يكن بسبب “كراهية عربية” كما ظل يُروّج له، بل بسبب أيادٍ عبثت بنسيج بلاده الأصيل.
يخصص شلايم الفصل السابع من الكتاب لما يسميه “قنبلة بغداد”، وهو عنوان رمزي لحقيقة مدوّية: التفجيرات التي عجّلت بهجرة يهود العراق إلى إسرائيل في أوائل الخمسينيات، كانت من تنفيذ عملاء صهاينة، وكذلك التفجيرات المشابهة في مصر.
عام 1950، أقرّت الحكومة العراقية قانوناً يسمح لليهود بمغادرة البلاد طوعاً خلال سنة. لكنّ قِلة قليلة فقط تعد على الأيدي سجّلت نيتها الرحيل، وأرادت الغالبية العظمى البقاء في العراق. وفي العام التالي، انفجرت 5 قنابل في أحياء وأماكن عبادة يهودية ببغداد. حينها، ارتفعت وتيرة الهلع وازداد التوتر بين أبناء الشعب الواحد، وبدأت هجرة جماعية لأكثر من 120 ألف يهودي عراقي، في ظرف عامين فقط.
المفاجأة؟
يؤكد شلايم، استناداً إلى تحقيقه التاريخي، أن 3 من أصل 5 تفجيرات كانت من تدبير الموساد، وأن العملية نُفذت عبر شبكة من اليهود الصهاينة المحليين العاملين في السر.
الشخصية المحورية في هذه العملية كان سوسيه ري (Suse Ri)، وهو يهودي عراقي ناشط في التنظيم السري الصهيوني. وقد زرع سوسيه ري 3 قنابل، بتوجيه من ضابط استخبارات إسرائيلي يدعى ماكس بينيت (Max Benet)، والذي كان يعمل من قاعدة للموساد في طهران، إيران. حيث كانت إيران في عهد الشاه حليفاً سرياً لإسرائيل، وقدمت الدعم اللوجستي والمخابراتي بما في ذلك المتفجرات (TNT) التي استُخدمت في العملية.
ألقي القبض على سوسيه ري، وخضع لمحاكمة وصفها شلايم بأنها عادلة وشفافة، تم خلالها عرض أدلة قاطعة على ضلوعه في التفجيرات. وفي عام 1954، صدر بحقه حكم بالإعدام وتم تنفيذ الحكم شنقاً.
لم تكن عملية بغداد استثناءً، بل حلقة في سلسلة عمليات ممنهجة عرفها العالم لاحقاً بـ”عمليات الراية الزائفة”، والتي تعتمد على تنفيذ تفجيرات أو عمليات إرهابية ضد المدنيين، ثم نسبها إلى جهات محلية أو معادية، لخلق فتنة وتغيير الواقع السكاني والسياسي في البلد. الموساد جنّد بعدها مجموعة من اليهود الصهاينة المصريين وزرعهم لتنفيذ تفجيرات في دور سينما وأماكن عامة، بهدف خلق توتر بين نظام عبد الناصر والغرب، لكن العملية فشلت، وتم القبض على كامل الشبكة، ومن بينهم ماكس بينيت، الذي “انتحر” في السجن.
كان كل تفجير يُنتج موجة من العنف المضاد، وكأن إسرائيل كانت تضرب “عصفورين بحجر”: دفع اليهود إلى الهجرة، وتمزيق النسيج العربي من الداخل، وتعميق الطائفية. واليوم، ومع الأنباء المتتالية عن تفجيرات استهدفت أحياء مسيحية في سوريا، لا يسع المتابع إلا أن يتساءل بقلق: هل نشهد إعادة إنتاج لنفس السيناريو؟ هل بدأت “قنبلة دمشق” الجديدة؟
فالتوقيت حساس، والسياق يشبه إلى حد بعيد ما سبق:
إن خطورة هذه التفجيرات لا تكمن في عدد الضحايا، بل في آثارها بعيدة المدى: إعادة إنتاج الشك، التباعد، والقطيعة بين شركاء الوطن. وهي أدوات خبرتها إسرائيل جيداً، واستخدمتها مراراً في الدول التي أرادت أن تدفع يهودها نحو الهجرة، أو تُفكك نسيجها الأهلي، أو تُعيد رسم تحالفاتها الإقليمية.
لقد حذّر آفي شلايم، من موقعه كأكاديمي و”ناجٍ من الرواية الرسمية”، من أن إسرائيل لم تتردد في استخدام الإرهاب ضد أبناء جلدتها إذا كان ذلك يخدم مشروعها القومي، فهل نتوقع منها تردّداً أكبر في استهداف مجتمعات غير يهودية اليوم، خصوصاً حين تُغلف ذلك بخطاب حماية الأقليات أو مواجهة “الإرهاب الإسلامي”؟
ما يجري في سوريا اليوم يجب ألا يُقرأ كحوادث منعزلة، بل حلقات ضمن نمطٍ استخباري قديم، يعيد استخدام الفتنة الطائفية سلاحاً استراتيجياً. وحين تنفجر قنبلة في حي مسيحي، لا ينبغي أن يكون السؤال فقط “من قُتل؟”، بل “من أراد لهذه الفتنة أن تنفجر؟”، و”من المستفيد من تفكك ما تبقّى من عيشٍ مشترك في سوريا؟”
لكن لا بد هنا من التمييز بين السياقين. فاليهود العرب في منتصف القرن العشرين، وعلى رأسهم يهود العراق، كانوا أقلية مندمجة بعمق في نسيج مجتمعاتهم، اقتصاداً وثقافةً ووجداناً. أما المسيحيون في سوريا اليوم، فهم أصحاب أرض وتاريخ، وركن أصيل في تشكيل الهوية السورية، لم يعيشوا على الهامش ولا في ظل حماية، بل كانوا شركاء في الدولة والمجتمع، قبل أن تنالهم المحن التي نالت الجميع.
ورغم ذلك، فإن الشاهد الأهم ليس في التشابه التام بين الحالتين، بل في تشابه عقلية الأطراف الكبرى التي لا تتردد في التضحية بأرواح الأبرياء يهوداً كانوا أو مسيحيين أو غيرهم لإفشال كل مشروع وطني جامع، وإنجاح كل مشروع تفكيكي يُبقي المنطقة أسيرة الهويات المجزّأة والولاءات الخارجية.
من بغداد إلى القاهرة، ومن دمشق إلى بيروت، تتكرر القصة ذاتها: حين تعجز مشاريع الوحدة عن الصمود، تتقدّم أصابع الفتنة لتعيد رسم الحدود بالدم، وتُخرج الأقليات من قلب أوطانها، وتحولهم إلى أوراق ضغط لا إلى مواطنين متساوين.
إن مقاومة هذا النمط لا تكون فقط برفض العنف، بل بفضح أصحابه، واستعادة سرديات التعايش، ورفض اختزال الأقليات في خنادق الطائفية، لأن ما يُستهدف في النهاية، هو العيش المشترك ذاته.
كل هذا الكلام لا ينفي أن دور الدولة هو حماية الشعب، كل الشعب، دور الدولة توفير الحماية والعدالة، وعدم التغاضي عن المحاولات “الفردية” بين حين والآخر، وحماية دور العبادة والمدارس والأسواق وأماكن تجمعات المدنيين مسؤوليتها أيّاً كانت مرجعياتهم، والعدالة والبحث والتحقيق حتى جلب المتورطين ومحاكمتهم بكل شفافية وهو حق لكل المواطنين.