آراء

كيف غازلت إيران الولايات المتحدة الأمريكية مرتين من أجل الصلح؟

كيف غازلت إيران الولايات المتحدة الأمريكية مرتين من أجل الصلح؟

كنت أطالع شاشات التليفزيون العربي وأشاهد مجريات الحرب الإيرانية-الإسرائيلية، وأفكِّر في مفارقات التاريخ. سحبتُ عددًا من الكتب من رفوف مكتبتي، حتى أهدأ من مخاوفي من انهيار العالم بالقراءة عن الماضي ولحظات الصراع والسلام بين الأمم. تُعجِبني الأخبار البائتة أكثر من اهتمامي بالأخبار العاجلة الطازجة. تُوَفِّر كُتب التاريخ أحيانًا نظرة شاملة لبعض القضايا.

سهرتُ أقرأ في تاريخ الشرق الأوسط عن تاريخ علاقة إيران بالغرب والولايات المتحدة، وانتبهت إلى قضية مهمة أحاول أن أثبتها لك عزيزي القارئ، وهي قدرات إيران الدبلوماسية، وكيف غازلت الولايات المتحدة الأمريكية مرتين، الأُولى في حرب أفغانستان، والثانية في حرب الولايات المتحدة في العراق. وكما سترى، تلعب إيران بسلاح السياسة بمهارة عالية، فلا أعداءَ دائمون ولا أصدقاءَ دائمون.


اللحظة الأُولى.. إسقاط طالبان في أفغانستان

على الرغم من سجلِّ إيران الطويل في رعاية الإرهاب من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإنَّ الأجواء بين واشنطن وطهران شهدَت تحسُّنًا ملحوظًا بعد 11 سبتمبر 2001. كان كلا البلدين يملك مصالح مشتركة في أفغانستان. قبل 11 سبتمبر، أي عندما كانت الولايات المتحدة داعمة مترددة للتحالف الشمالي، كانت إيران داعمته الرئيسية. صرَّحت إحدى الشخصيات الدبلوماسية المهمة الأمريكية، السفير زلماي خليل زاد، أنه بدأ الحوار مع إيران، خصوصًا أنه رأى أنه من المفيد للولايات المتحدة التحاور مع الدبلوماسيين الإيرانيين لأنهم بصفة عامة من بين العناصر الأكثر اعتدالًا في النظام، ولما يملكونه من خبرة ومعرفة بأفغانستان أيضًا. وهذا الدبلوماسي زلماي من أصل أفغاني، تولَّى هذا الملف لمعرفته بِلُغة قومه، وترقَّى في جهاز الإدارة الأمريكية. وتُقدِّم مذكراته “السفير” سردًا لِدَوْر إيران في التنسيق حول سيناريو حكومة أفغانستان بعد سقوط نظام طالبان.


أمريكا وإيران تحتسيان القهوة في ألمانيا

ذهب الدبلوماسي زلماي خليل زاد والدبلوماسي الأمريكي جيمس دوبينز إلى فندق للقاء الوفد الإيراني مساء يوم 4 ديسمبر، أي قبل يوم واحد من انطلاق مؤتمر بون، وهو المؤتمر الذي جمع الفصائل الأفغانية لتحديد المستقبل السياسي لأفغانستان. وعُقِدَت المحادثات تحت رعاية الأمم المتحدة، وضمَّت 28 مندوبًا أفغانيًّا يمثلون أربع قوى رئيسية، بهدف تشكيل حكومة موسعة في كابل عقب إسقاط حكومة طالبان.

الوفد الإيراني كان بقيادة ممثل طهران آنذاك في الأمم المتحدة، جواد ظريف، الذي قاد بعد سنواتٍ الوفدَ الإيراني في المحادثات النووية. وفي أثناء المفاوضات حول أفغانستان نشأ في أوساط السلك الدبلوماسي الأمريكي احترام مهارات ظريف وفطنته.

وبالإضافة إلى ظريف اجتمع الأمريكان مع شخصية إيرانية مهمة، محمد إبراهيم طاهريان، السفير الإيراني لدى التحالف الشمالي في أفغانستان، ثم أمضوا ساعة في مناقشة أهدافهم من المؤتمر. كان طاهريان واسع الاطلاع على شؤون أفغانستان. وقد اعترف الإيرانيون بأنه من الأفضل للحكومة الجديدة في أفغانستان أن تتضمن الفصائل الأخرى، على الرغم من علاقتهم الطويلة مع التحالف الشمالي، كما أيّدَ الإيرانيون ترشيح حامد كرزاي لقيادة الحكومة.

شكَّل الاجتماع الأول بين الأمريكيين والإيرانيين بداية علاقات ودّية ومثمرة بين الوفدين الأمريكي والإيراني طَوال فترة المؤتمر، وكان زلماي خليل زاد وجيمس دوبينز يحتسيان القهوة مع ظريف وطاهريان كل صباح.

تبيَّن أن تلك اللقاءات غير الرسمية كانت نافعة، لأنها ساعدت الوفد الأمريكي على بناء علاقات شخصية سهّلَت نقاشاتهم الرسمية لاحقًا حول قضايا أخرى. ولولا لقاءات القهوة الصباحية تلك ما عرف زلماي مدى عُمق معرفة طاهريان بأفغانستان، فقد أمضى طاهريان وقتًا طويلًا مع زعيم أفغانستان الشيوعي محمد نجيب الله، وساعدت خبرة محمد جواد ظريف في تشكيل الوزراء في حكومة افغانستان.


مؤتمر بون ذروة التعاون

يُشير تريتا پارسي في كتابه “خسارة عدوّ.. أوباما وإيران وانتصار الدبلوماسية” إلى أن ذروة التعاون الأمريكي-الإيراني تجلَّت في أثناء هذا المؤتمر في مدينة بون في 10 ديسمبر 2001، عندما أُقِرَّت الخطة الجديدة للحكم في أفغانستان. وكانت الولايات المتحدة وإيران قد وضعتا معًا وبعناية تامَّة الأساس للمؤتمر قبل أسابيع من انعقاده.

أثبتت إيران أن نفوذها السياسي لدى المجموعات الأفغانية المتحاربة والمختلفة حاسم ومُهِمّ، إذ إنّ تأثير إيران في الأفغان، لا تهديدات الولايات المتحدة ووعودها، هو الذي دفع المفاوضات إلى الأمام. وكان مما يثير الفضول الشديد هو أن التعليمات التي تَزوَّد بها فريق التفاوض الأمريكي لا تتضمّن شيئًا حول إحلال الديمقراطية في أفغانستان.

وفي الليلة قبل الأخيرة لمؤتمر بون، كان قد اتُّفِق على دستور مؤقت وحُلَّت كلُّ القضايا الأخرى، ما عدا المسألة الأصعب: مَن سيحكم أفغانستان؟ أصرَّ «تحالف الشمال» على أنَّ الغنائم يجب أن تكون نصيبه لأنه المنتصر في الحرب، وعلى الرغم من أنّه يمثّل نحو 40 في المئة من سكان البلاد، أراد «تحالف الشمال» الحصول على ثماني عشرة وزارة من الوزارات الأربع والعشرين.

في نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل، جمع الدبلوماسي الأمريكي الرئيسي السفير جيمس دوبينز الأطراف الأفغانية، والإيرانيين، والروس، والهنود، والألمان، وممثل الأمم المتحدة السفير الأخضر الإبراهيمي، من أجل حلّ هذه المسألة الأخيرة العالقة. وخلال ساعتين من الزمن تناوبت الوفود المختلفة على محاولة إقناع يونس قانوني، ممثل «تحالف الشمال»، بقبول عدد أقلّ من الوزارات، لكن من دون جدوى.

استمرَّ النقاش حتى الساعة الرابعة من بعد منتصف الليل. وفي تلك اللحظة وقف جواد ظريف وانتحى بقانوني جانبًا، ثم همس له بشيء ما، وقد نشرت صحيفة “نيوزويك” لاحقًا أنه همس له بالفارسية: «هذه أفضل صفقة ستحصل عليها». بعد دقائق قليلة، عادا إلى المنضدة، ووافق الأفغان، وقال ياسين قانوني: «حسنًا، أنا أستسلم»، وأكمل: «يمكن للفئات الأخرى أن تأخذ وزارتين إضافيتين». كان ذلك منعطفًا حاسمًا، لأن جهود جميع الدول الأخرى لإقناع قانوني باءت كلّها بالفشل. وهكذا لم تُحلّ المسألة الأفغانية حتى أخذه ظريف جانبًا.

وفي صباح اليوم التالي، وُقّعت اتفاقية بون. بالنسبة إلى الإيرانيين، كانت تلك لحظة انتصار، فلم يُهزَم عدوٌّ رئيسيٌّ لإيران -طالبان- فحسب، بل تشير هذه السردية إلى كيف أثبتت إيران أنها يمكنها أن تساعد في تثبيت استقرار المنطقة، وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من علاقات حسنة مع طهران.


شعارات الديمقراطية ومكافحة الإرهاب

شرع دوبينز وظريف في وضع إطارٍ لحكومة أفغانية جديدة. وكان الرجلان يلتقيان في العاشرة من صباح كل يوم لتناول القهوة مع الإيطاليين والألمان الذين جاؤوا معهما لتوفير ورقة توت المحادثات المتعددة الأطراف. في خلال إحدى جلسات الشاي والكعك هذه، لفت جواد ظريف انتباه دوبينز إلى إغفال نقطة رئيسية في مسوَّدة الاتفاق النهائي في إعلان بون، قائلًا بِلُغته الإنجليزية التي لا تشوبها شائبة: “النص لا يُشير إلى انتخابات ديمقراطية. ألا تعتقد أنّ على الحكومة الأفغانية الجديدة التزام إجراء انتخابات ديمقراطية؟”. وافق دوبينز، وشعر ببعض الحرج لأن الوفد الأمريكي لم يلحظ غياب هذا المبدأ الأساسي الواضح في السياسة الأمريكية في حين لحظه الإيرانيون.‏

تابع ظريف مُتلذِّذًا بوضوحٍ بسرقة الموضوعات الأمريكية المعهودة: “علاوة على ذلك، إنَّ مسوَّدة الاتفاق لا تشير إلى الإرهاب. أليس علينا أن نُصِرّ على أن تكون الحكومة الأفغانية الجديدة ملتزمة التعاون مع المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب؟”. هكذا اقترح الإيرانيون تذكير المفاوض الأمريكي بالديمقراطية ومكافحة الإرهاب حتى يُبرّر غزو أفغانستان، كأنهم يعرفون لعبة بيع الشعارات والغلالة التي تفضل الولايات المتحدة إضافتها إلى دورها في العالم.

يُشير كتاب انتصار الدبلوماسية إلى أن إيران عرضت المساعدة في إعادة بناء الجيش الأفغاني -تحت قيادة أمريكية- من أجل تقوية الحكومة الأفغانية أمام أسياد الحرب المختلفين الذين كانوا لا يزالون يسيطرون على أجزاء من البلاد. «نحن مستعدّون لإيواء، ودفع رواتب، وكسوة، وتسليح، وتدريب بحدود عشرين ألف جندي، ضمن برنامج أوسع تحت قيادتكم»، هكذا قال الإيرانيون للدبلوماسي الأمريكي دوبينز في أثناء أحد الاجتماعات في جنيف.

لكن إدارة جورج بوش لم تُبدِ اهتمامًا بالأمر، فقد ذكر الدبلوماسي الأمريكي دوبينز: “لم أرَ أي بصيص من الاهتمام من جانب دولتنا”. للشروع في مناقشة استراتيجية مع الإيرانيين، لم يكن هناك أي تقدير لمصلحة إيران الاستراتيجية في شرق أوسط مستقرّ، أو لاحتمال أن تكون طهران قد أرادت ترقيع علاقاتها مع الولايات المتحدة.

هكذا ساهمت اجتماعات باريس وجنيف السرّية في أكتوبر 2001 بين أمريكا وإيران في عزل طالبان عمليًّا، ثمّ تنصيب حكومة أفغانية جديدة. ليس هذا فحسب، بل إنّ مساعدة إيران كانت منوّعة، فقد عرضوا قواعدهم الجوية لتستخدمها الولايات المتحدة، وتطوّعوا بمهامّ البحث والإنقاذ للطيارين الأمريكيين في حال سقوطهم، وعملوا كجسر تواصل بين الولايات المتحدة و«تحالف الشمال»، واستعملت إيران المعلومات الأمريكية أيضًا للعثور على الهاربين من زعماء القاعدة وقتلهم.

و‏لاسترضاء الأمريكيين، طار جواد ظريف إلى نيويورك حاملًا معه نسخًا من جوازات سفر أكثر من مئتَي مقاتل من مقاتلي القاعدة وطالبان تحتجزهم السلطات الإيرانية، فضلًا عن جدولٍ بيانيٍّ بهوية كلٍّ منهم وموقعه في الشبكة الأكبر.


اللقاء الثاني.. لحظة العراق

كانت اللحظة الثانية التي رأيت فيها أن إيران قدَّمت مغازلة للولايات المتحدة ونيَّة للتصالح هي لحظة احتلال العراق. كان جواد ظريف، سفير إيران لدى الأمم المتحدة في ذلك الحين، يرأس الجانب الإيراني الذي كان دائمًا مضيافًا إلى أبعد الحدود، وخصوصًا في الاستضافة على الغداء، طبقًا لشهادة الأمريكان.

قال الأمريكان للدبلوماسي الأمريكي رايان كروكر إنّ ما نجح في أفغانستان يمكن أن ينجح مرة أخرى ضدّ عدوّ مشترك آخر، أي العراق. اجتمع الإيرانيون مع الأمريكيين مرتين، أخبر زلماي خليل زاد الطرف الإيراني ممثلًا في جواد ظريف أن الولايات المتحدة تنوي إسقاط نظام صدّام، وإزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتأسيس حكومة ديمقراطية تكون على سلام مع جيرانها. وأوضح زلماي لظريف أنه يتوقع تعاونًا من إيران مع الولايات المتحدة في مجالات محددة في حال تدخَّلت الولايات المتحدة في العراق. كان زلماي يريد التزامًا من إيران بعدم إطلاق النار على الطائرات الأمريكية إذا حلّقت عن غير قصد فوق الأراضي الإيرانية، فوافق جواد ظريف على ذلك.

وكان الأمريكان يأملون أيضًا أن تحثّ إيران الشيعة العراقيين على المشاركة البنّاءة في إنشاء حكومة جديدة في العراق، فردّ ظريف بأنّ إيران تعارض بشدّةٍ أيَّ احتلال أمريكي، وتريد تشكيل حكومة عراقية في المنفي بأسرع وقت ممكن، كما أشار ظريف إلى ضرورة إعادة بناء الأجهزة الأمنية العراقية من الأساس لعدم إمكانية إصلاحها، وكان يؤيد إجراء عملية اجتثاث عميقة لحزب البعث.

كان باستطاعة إيران أن تتسبّب بالفوضى والخراب للولايات المتحدة، لكنها اختارت ألا تفعل. «لو أراد الإيرانيون أن يخلقوا الفوضى في العراق [بعد سقوط صدّام] لاستطاعوا ذلك بسهولة في الأيام الأشدّ ظلمة بعد الحرب، ومِن حُسن حظّ الولايات المتحدة أنّهم لم يفعلوا»، كما صرح أحد المسؤولين الأمريكان.


ركّز الاجتماع الأخير بين إيران وأمريكا على مكافحة الإرهاب، وفيه طالب جواد ظريف بأن تُسلِّم الولايات المتحدة قيادة مجاهدي خلق، وهي مجموعة إيرانية معارضة كانت تتخذ من العراق مركزًا لها، فأخبره زلماي أن الولايات المتحدة ستنزع سلاح مجاهدي خلق، ولكنها لن تُسلّمهم إلى إيران، وذكّره بأنّ إيران كانت آنذاك تُؤوي قادة من القاعدة، ومِن ضِمنهم ابن أسامة بن لادن.

أشار زلماي خليل زاد في مذكّراته إلى مسألة مهمة في هذا الاجتماع، إذ يقول: “لم يكُن الإيرانيون صريحين، ولكنهم في لحظةٍ ما بَدَوا كأنهم كانوا يودّون إجراء مبادلة مباشرة -قادة مجاهدي خلق مقابل نُشطاء القاعدة- رغم أن إدارة بوش لم تكُن مستعدّة لذلك. بعد تسعة أيام من اجتماعنا، انفجرت شاحنة مفخخة بمجمع سكني في الرياض، وقتلت ثمانية أمريكيين. وعندما رُبِطت الاعتداءات بتنظيم القاعدة في إيران، قرر المديرون قطع قناة اتصالي مع الإيرانيين”.


موقف إسرائيل من التواصل الإيراني-الأمريكي

استشاطت إسرائيل غضبًا من تعاون واشنطن مع طهران، وفي توبيخ قاسٍ بشكل غير معتاد للرئيس الأمريكي جورج بوش، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون علنًا إلى أنّ بوش يتصرّف مثل رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين (1937–1940)، فهو يبيع إسرائيل بالطريقة نفسها التي باع بها تشامبرلين التشيكيين برفضه لمواجهة أدولف هتلر وعقده معاهدة سلام معه. أغضبت تلك التعليقات الرئيس الأمريكي، ووصف السكرتير الصحفي للبيت الأبيض آري فليتشر ملاحظات شارون بأنها «غير مقبولة». ولكي يسود كثير من الارتياح في إسرائيل، انتهى الغزل الأمريكي-الإيراني بشكل مفاجئ بعد أسابيع فقط النجاح في بون.

عاد جيمس دوبينز إلى واشنطن لإطلاع مسؤولي الإدارة الرئيسيين على العرض الإيراني غير المسبوق، الذي فُهِم كبادرة ودّية، لكن دوبينز اصطدم بجدار صُلب في وزارة الدفاع الأمريكية، فقد اطَّلع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد على الاقتراح ولم يُظهِر أيّ اهتمام حقيقي بالاقتراح، وهنالك بالضبط دُفن الاقتراح، ولم تهتمّ الإدارة الأمريكية بانفتاح استراتيجي أوسع “لأن واشنطن ركّزت بشكل كبير على سلوك إيران نحو إسرائيل”.


‏ثلاث كلمات في خطاب.. إيران في محور الشر

نقطة التحول المهمة كانت في 9 يناير 2002، وفي خطابه الأول حول حالة الاتّحاد، جمع الرئيس الأمريكي جورج بوش إيران جنبًا إلى جنب مع العراق وكوريا الشمالية باعتبارها أنظمة «تشكّل، مع حلفائها الإرهابيين، محور الشرّ وتتسلّح لتهديد السلام في العالم عن طريق السعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل». وقال بوش إنّ تلك الأنظمة تشكّل «خطرًا شديدًا ومتزايدًا».

كانت الصدمة كبيرة في طهران، فسياسة خاتمي القائمة على الانفراج ومساعدة إيران للولايات المتحدة في أفغانستان أُجهضت وكأنها لم تكُن على الإطلاق، وكان يتصدى للمتشددين في طهران، الذين بدا أن شكوكهم بشأن جدوى الثقة بالأمريكيين قد ثبتت صحتها. “محور الشر” كان فشلًا ذريعًا لحكومة خاتمي، وأغلقت الكلمات الثلاث، التي وردت في خطاب بوش حول حالة الاتّحاد، الأبواب أمام الفرصة السانحة لتعاون أمريكي إيراني مستمرّ وعلاقات حسنة. فرصة جادّة لحوار ربّما كان سيقود في الحقيقة إلى شيء حسن. وقال جواد ظريف: “خلال بضعة أيام، تحوّلت سياسة التعاون إلى سياسة مجابهة”.

بعد فترة قصيرة من ذلك، أُغلقت قناة جنيف، وهي الملتقى الدبلوماسي حيث ناقشت الولايات المتحدة وإيران المسألة الأفغانية، ولم يُعقد سوى اجتماع واحد بعد خطاب «محور الشرّ»، وقد احتجّ الإيرانيون حول سياسة الرئيس بوش التي صنّفت إيران مع العراق وكوريا الشمالية.

قامت طهران بمحاولة أخيرة لمدّ اليد إلى الولايات المتحدة. واعتقادًا منهم بأنّ نظامهم نفسه قد يكون مهدّدًا بالزوال، وضع الإيرانيون كلّ شيء على الطاولة، حزب الله، والنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي، وبرنامج إيران النووي.

وقد أعدّ الإيرانيون اقتراحًا شاملًا يتناول جميع نقاط الخلاف بين البلدين، ويحدّد محاور صفقة محتملة كبيرة بينهما، وكانت المسوَّدة الأولى من الاقتراح كتبها صادق خرازي، سفير إيران لدى فرنسا في ذلك الوقت وابن شقيق وزير الخارجية الإيراني آنذاك، ثمّ رُفعت المسوَّدة إلى زعيم إيران الأعلى للموافقة عليها، الذي طلب من ممثل إيران في الأمم المتحدة آنذاك، جواد ظريف، مراجعتها وإجراء عمليات التحرير النهائية لها قبل إرسالها إلى الأمريكيين. إضافة إلى ذلك، استشار الإيرانيون تيم غولدمان، السفير السويسري لدى إيران، الذي سلّم الاقتراح في النهاية إلى واشنطن. أذهل الاقتراح الأمريكيين؛ كانت وثيقة مدهشة، ورسمية.

يوضح الباحث تارتا بارسي أن ما لم يعلمه الإيرانيون هو أنّ إدارة بوش لم تكُن تنوي مكافأة إيران على تعاونها، أو تسمح بتحسّن العلاقات، فقد كانت القواعد قد وُضعت لترتيب كيفية تعامل واشنطن مع إيران، وهكذا فشلت هذه المحاولات الإيرانية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وشعر جواد ظريف بالمهانة، وشعر أن الولايات المتحدة قد خانت الانفتاح الإيراني الحسن النيّة.

وانتقامًا لذلك، أفرجت إيران في فبراير عن القائد المطلوب في حركة طالبان قلب الدين حكمتيار، الذي عاد على الفور إلى طرقه القديمة وأصبح شوكة كبيرة في الخاصرة الأمريكية من خلال تنظيم المقاومة ضد الحكومة.


تخوض إيران هذه الأيام حربًا حقيقية مع إسرائيل تهدد النظام الإيراني نفسه، وهي حرب مهمة لإيران، وهي على عداء حقيقي مع إسرائيل، وهي ليست مسرحية أبدًا، وإنّ إسرائيل تحذّر وتهدّد منذ سنوات طويلة من الخطر الإيراني، ولكن هذا لا يمنع أن إيران ناورت سياسيًّا كثيرًا عبر عرض الصلح والتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية، عبر مساعدتها في ملف أفغانستان وملف العراق لإسقاط غريمها القديم صدّام حسين، قبل أن تصنّفها الولايات المتحدة في محور الشر، ومساهمة إسرائيل المستمرة في عرقلة أي فُرَص للتصالح بين طهران وواشنطن وتخريب الاتفاق النووي. هذه المراجعة التاريخية فرصة لرؤية خريطة إيران السياسية بعيدًا عن اصطفافات الخير والشر أو شعارات المقاومة، ونرى بُعدها البراغماتي، وقدرتها العالية على التفاوض، وعملها السياسي الدؤوب، وحرصها على مصالحها الاستراتيجية.

شارك

مقالات ذات صلة