في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، تقف سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء مؤسساتها على أسس علمية، وخلق دولة تعتمد على الكفاءة و العمل، وفي قلب هذه العملية يقف مورد لا يقل أهمية عن النفط أو المياه: البيانات. ففي عالم اليوم، لم تعد البيانات مجرد مدخلات إدارية أو سجلات محفوظة، بل أصبحت المحرك الأول لصناعة القرار، وتوجيه السياسات العامة، وابتكار الحلول، وتخصيص الموارد بدقة و فعالية.
التحدي السوري: غياب البنية و فوضى البيانات
تعاني سوريا غياباً شبه تام للبنية التحتية الرقمية، وتفتقر مؤسساتها إلى قواعد بيانات موحدة ومنظمة. البيانات المتعلقة بالصحة، والتعليم، والاقتصاد، وحالة البنية التحتية، وملفات المعتقلين وذوي الشهداء والمتضررين من الحرب، إما مشتتة أو غير متوفرة أو غير موثوقة. وهو ما يجعل عملية اتخاذ القرار مبنية إلى حد بعيد على الحدس والتقدير الشخصي لا على الوقائع والأرقام.
ولكن هذه النقطة بالذات تمثّل فرصة فريدة، فالدولة الجديدة لا ترث نظاماً معقّداً بحاجة إلى إصلاح، بل تنطلق من الصفر، مما يتيح تصميم منظومة حديثة للحوكمة القائمة على البيانات منذ البداية. وعليه، تبنّي نهج قائم على البيانات ليس ترفاً تنظيمياً، بل ضرورة وجودية. فإعادة إعمار المدن تحتاج إلى بيانات دقيقة عن حالة الأبنية والبنى التحتية، وتخطيط الموارد الصحية يتطلب فهماً دقيقاً لتوزع السكان واحتياجاتهم، كما أن تصميم السياسات التعليمية الجديدة يتطلب بيانات محدثة عن نسب التسرب من التعليم، وتوزع المدارس، والكفاءات التعليمية.
الاستثمار في البيانات: سوق واعد يُبنى من الصفر
هذه العوامل وكثير غيرها يجعل الاستثمار في هذا المضمار أمراً حتمياً ومهماً، حيث يبرز سوق تحليل البيانات في هذه البيئة الناشئة كأحد أكثر المجالات الواعدة في سوريا. يمكن للمستثمرين خصوصاً المتخصصين في الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وحلول الأعمال، أن يؤدوا دوراً أساسياً في تصميم أنظمة معلومات وطنية، وبناء مستودعات بيانات مركزية، وتقديم خدمات تحليلات للحكومة والشركاء الدوليين. حيث يمكن الاعتماد على منصات تحليل بيانات عالمية مثل أدوات Google Cloud وغيرها، من أجل تسريع بناء القدرات التحليلية للدولة، مع الالتزام بمبدأ السيادة الرقمية.
بتحليل بسيط لتجارب دول أخرى تشبه حالتنا السورية في هذا المجال، نجد أن الفراغ المؤسساتي الرقمي الحالي سيؤدي بالضرورة إلى ظهور شركات ناشئة سورية أو إقليمية تقدم حلولاً مخصصة للتحليلات القطاعية، إضافة إلى شركات BPO محلية لخدمات إدخال البيانات وتنقيحها واستخراج النتائج منها (وهي شركات تعمل على الاستعانة بمصادر خارجية لتنفيذ العمليات التجارية)، ناهيك عن شركات حلول ذكاء اصطناعي تعتمد على البيانات السورية في تطوير أدوات تخص السياق المحلي.
وبخلاف القطاعات التقليدية (الطاقة، الإعمار، الزراعة) التي تتطلب استثمارات ضخمة وبنية تحتية معقدة، فإن قطاع البيانات يحتاج لرأسمال أقل نسبياً، ويمكنه بسهولة تحقيق الاتساق مع أجندة الحوكمة والشفافية التي يطالب بها المجتمع الدولي، ويمكّن المستثمر من بناء علاقات مؤسسية طويلة الأمد مع الحكومة، الجامعات، والمجتمع المدني.
طلب غير ملبّى ومجالات لا محدودة
وإذا نظرنا بعمق أكثر قليلاً لواقع الحال في سوريا، نستطيع ببساطة تحديد أهم القطاعات ذات الطلب المتزايد مع الوقت على خدمات جمع وتحليل البيانات، ومن أهمها:
– الصحة: لتحليل انتشار الأمراض، وربط الملفات الطبية، وأتمتة إدارة المستشفيات.
– التعليم: لتقييم مستوى الطلاب، وتطوير المناهج، وإدارة الكوادر والمعلمين.
– الاقتصاد: لمراقبة الأسواق، تحليل سلوك المستهلك، وإدارة الدعم والتمويل.
– البنية التحتية: تتبع حالة الطرق والمباني والخدمات العامة وشبكات الطرق وغيرها.
– العدالة الانتقالية: توثيق أعداد وأسماء الضحايا من المعتقلين، الشهداء وذوييهم ومتابعة جبر الضرر وتقديم الدعم اللازم.
رغم أن الكفاءات المحلية في هذا المجال ما تزال محدودة (خبرات شابة جيدة لكنها قليلة العدد وبعضها يحتاج المزيد من التدريب و الخبرة) إلا أن سوريا تمتلك رصيداً ثميناً من الخبراء السوريين المقيمين في الخارج، القادرين على نقل المعرفة وبناء القدرات داخلياً، إضافة إلى إمكانية إطلاق برامج تدريب وطنية سريعة بالشراكة مع الجامعات وشركات التقنية المحلية والعالمية.
كل ذلك يمكن أن يتم إذا تم وضع خارطة طريق متكاملة لبناء سوريا جديدة قائمة على الحوكمة الرشيدة، إذ لا بد من اعتماد عقيدة مؤسسية جديدة تجعل من البيانات أحد أعمدة الدولة، جنباً إلى جنب مع القانون والمؤسسة الأمنية والخدمة المدنية، بحيث تترافق هذه الرؤية مع عدة خطوات و مشاريع وطنية يجب العمل عليها وإعطاؤها الأولوية في البناء والتطوير، مثل إنشاء الهيئة السورية للبيانات والتحول الرقمي، وتطوير سياسات وطنية للبيانات المفتوحة والمشتركة، وحماية البيانات الحساسة تحت إطار قانون السيادة المعلوماتية من خلال سنّ قوانين لحماية البيانات الشخصية والخصوصية الرقمية.
في عالم متحوّل تتسابق فيه الدول على امتلاك الموارد المعرفية، فإن من لا يملك بياناته، لا يملك قراره. وسوريا اليوم تملك فرصة تاريخية لتأسيس دولة حديثة، تصنع قراراتها من أرض الواقع، لا من كواليس السلطة، ولن يتحقق ذلك إلا ببناء منظومة بيانات وطنية تشكّل الرافعة الأساسية لصناعة القرار، والتخطيط، والرقابة، والتنمية.
سوق البيانات في سوريا يعّد “النفط الأبيض” في بلد لم يُستخرج منه بعد، ،من يؤسس اليوم، سيكون هو من يضع المعايير، يبني الأدوات، ويحصد عوائد طويلة الأمد في اقتصاد رقمي ناشئ، يحتاج لكل بايت من المعلومات لبناء قراراته ومؤسساته.
“بدون البيانات، أنت مجرد شخص آخر، يمتلك رأي”. – إدوارد ديمينغ