مدونات
للكاتب: إسلام حافظ
حين تتهاوى إسرائيل أمام الحقيقة الإيرانية
منذ أن زُرع الكيان الصهيوني في قلب الجغرافيا العربية عام 1948، لم يكن سلاحه الأقوى في ميدان المعركة هو المدفع أو الطائرة، بل الخرافة. خرافة “الجيش الذي لا يُقهر”. تلك الأسطورة التي تغذّت على هزائم الأنظمة العربية، ورعتها العواصم الغربية، وكرّستها ماكينة إعلامية ضخمة نجحت في تثبيت صورة إسرائيل ككيان عصي على الانكسار.
لكن الأساطير، مهما بلغت سطوتها، مصيرها أن تنكسر أمام الواقع، والواقع اليوم بات واضحًا: إسرائيل تُقهر، بل تُهزم، وتُمرّغ في وحل العجز، وعلى يد من؟ على يد دولة محاصرة، معزولة سياسيًا، تخوض حرباً مفتوحة ضدها: إيران.
لقد تغيرت قواعد اللعبة. لم تعد إسرائيل تقاتل عصابات مشتتة أو جيوشاً عربية مترهلة، بل باتت تخوض مواجهة مفتوحة، مباشرة وشاملة مع إيران ومحورها، تتجاوز الاشتباكات بالوكالة إلى قصف متبادل، وضربات استراتيجية، ومعارك تكنولوجية وفضائية، وتصفية مراكز قيادية، وردود ميدانية في عمق الجبهات.
نحن الآن أمام مشهد غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي: لأول مرة، دولة إقليمية ذات سيادة تدخل حرباً مباشرة مع إسرائيل وتستمر فيها، دون أن تنهار.
منذ أبريل 2024، حين قصفت إيران العمق الإسرائيلي لأول مرة بصواريخ دقيقة ومسيّرات هجومية، كُسر حاجز الردع. ورغم تفوق إسرائيل التكنولوجي، كانت تلك الضربة نقطة تحول تاريخية في بنية الصراع. لم يعد بإمكان إسرائيل الادعاء بأنها خارج نطاق الخطر. لم تعد قادرة على احتكار زمام المبادرة، أو التحكم في توقيت المعركة وميدانها. لأول مرة منذ عقود، اضطرت تل أبيب إلى الانكفاء، واتضح للعالم أن أمنها هش، وقبتها الحديدية مثقوبة، وجيشها مجرد هيكل ضخم خائف من الأشباح.
إيران، التي وُصفت طويلاً بأنها تهديد نظري أو خطر مستقبلي، باتت اليوم تهديدًا وجوديًا حقيقيًا للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. إنها لا تقدم الدعم فقط للفصائل، بل تصنع معادلات. تبني منظومات. تؤسس جبهات قتال متعددة. تفكك الميتولوجيا العسكرية الصهيونية لبنةً لبنة.
وفي هذا السياق، تصبح فكرة “الجيش الذي لا يُقهر” ليست مجرد كذبة، بل كارثة استراتيجية لإسرائيل، لأنها آمنت بها هي ذاتها. والخطر الأكبر على أي جيش ليس أن يُهزم من الخارج، بل أن يُفاجأ من الداخل بأنه لم يكن ذلك العملاق الذي تصوره.
لقد كشفت المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل عن عمق ضعف العقيدة القتالية الإسرائيلية. فجيش الاحتلال، الذي رُبّي على حرب خاطفة وضربات استباقية، يواجه اليوم نموذجًا مختلفًا: خصمًا لا يخاف من الحرب الطويلة، بل يتقنها. خصمًا يؤمن بالاستنزاف والتراكم، ويعتبر كل جولة مجرد فصل من فصول معركة كبرى عنوانها: زوال إسرائيل.
هنا تحديدًا تلعب الفلسفة الإيرانية دورها الأخطر. فإيران لا ترى إسرائيل كعدو سياسي أو خصم جغرافي، بل كتشويه تاريخي يجب محوه، كخلل أخلاقي وجب إصلاحه، كفصل غير مشروع في كتاب المنطقة. والمفارقة أن من كان يُتهم قديمًا بالمبالغة والمزايدة – أي إيران – صار اليوم الأكثر واقعية في التعامل مع طبيعة الصراع. فبينما تلهث الأنظمة العربية خلف التطبيع، وتستجدي الحماية، تتقدم طهران بخطى ثابتة نحو تفكيك الرواية الإسرائيلية من أساسها.
لقد تآكلت فكرة “التفوق الإسرائيلي” أمام أعين العالم، ليس فقط في غزة أو لبنان، بل في مطارات تل أبيب، وفي سماء صحراء النقب، وفي مفاعل ديمونا المُهدد لأول مرة منذ إنشائه.
ولا يمكن إغفال دور ما يُسمى “محور المقاومة”، الممتد من طهران إلى صنعاء، مرورًا ببغداد ودمشق وبيروت وغزة. هذا المحور، رغم تناقضاته الداخلية، يعمل كجبهة شبه موحدة ضد إسرائيل، بتنسيق عملياتي واستخباري متصاعد. إنه كيان جغرافي–أيديولوجي جديد، لا تحكمه الحدود، بل تحركه فكرة واحدة: إسرائيل ليست قدَرًا، بل طارئ زائل. وهذه الفكرة وحدها كافية لإسقاط أي جيش، مهما بلغت ترسانته.
وفي الداخل الإسرائيلي، تتراكم مؤشرات الانهيار النفسي. فقد بات الجندي الإسرائيلي يخوض معركة لا يفهمها، ضد عدو لا يعرف أين يبدأ ولا أين ينتهي. تتراجع الثقة بالقيادة، ويزداد الاستقطاب المجتمعي، ويصعد التيار الفاشي الذي يعيد إنتاج القمع داخليًا وخارجيًا. لقد بدأت إسرائيل تأكل نفسها، كوحشٍ خائفٍ من ظله، يخشى الهزيمة فيختلقها، ويخشى الانتصار لأنه لم يعد يؤمن به.
وما أشبه اليوم بالأمس. فكما سقطت “أسطورة التفوق الجوي الإسرائيلي” في حرب أكتوبر 1973، تسقط اليوم أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر” في حرب متعددة الجبهات، متعددة الأدوات، متعددة العقول. لكنها هذه المرة ليست مجرد معركة بين دول، بل بين رؤية ميتافيزيقية للصراع، وبين كيان هشّ يحتمي خلف سردية الضحية وهو جلاد.
إن إسرائيل تهزم نفسها، لكن إيران تسرّع الانهيار. تفتح الجبهة، وتكسر السقف، وتحول الخوف الصهيوني إلى حقيقة مادية قابلة للقياس. لم تعد الحرب احتمالًا، بل واقعًا. لم يعد الصراع مؤجلًا، بل حتميًا.
وفي هذا السياق، تسقط إسرائيل أخلاقيًا قبل أن تسقط عسكريًا، وتتهاوى كذبة “الجيش الذي لا يُقهر” كما تهاوت من قبل أكاذيب الإمبراطوريات التي ظنت أن التاريخ يُكتب بالدبابات.
اليوم، يمكن القول بثقة: إن ما سُمّي “الجيش الذي لا يُقهر” بات مجرد شبحٍ من الماضي، وخرافة تتلوى في حضرة الحقيقة. وإيران، بحربها الجريئة والمفتوحة، تكتب السطر الأول في شهادة وفاة الأسطورة.