سياسة
في خطوة تفتح الباب أمام تحول سياسي مرتقب، أعلن رئيس الجمهورية العربية السورية في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، في 13 حزيران/ يونيو 2025، عن تشكيل “اللجنة العليا للانتخابات” بموجب المرسوم رقم 66، التي تُعنى بالإشراف على الانتخابات البرلمانية المقبلة، هذه الخطوة ليست مجرد إجراء تنظيمي بحت، بل تأتي في توقيت حيوي يشير إلى بداية مرحلة جديدة في مسار الانتقال السياسي.
تشكيل اللجنة يأتي وسط تساؤلات عديدة حول مدى قدرتها على إحداث تغيير حقيقي في موازين القوى السياسية، وكيف ستُدار العملية الانتخابية في بلد يشهد إعادة ترتيب للسلطات وتوازنات داخلية معقدة، فالمسألة لا تتعلق فقط بجوانب إجرائية، بل تتداخل فيها اعتبارات تمثيلية وحسابات سياسية قد تحدد مستقبل المشهد السوري لعقود قادمة.
لذا، يمثل هذا الإعلان نقطة انطلاق لفهم التحولات الجارية، التي لا تقتصر على البنية الانتخابية فحسب، بل تنطوي على رهانات سياسية كبيرة في ظل مرحلة انتقالية دقيقة تتطلب إدارة متوازنة وحساسة.
تشكيل لجنة عليا للإشراف على الانتخابات، في سياق سياسي هش كالذي تعيشه سوريا حالياً، لا يمكن قراءته بمعزل عن تطورات الأشهر الأخيرة، فمنذ خروج الأسد من الحكم فعلياً، بدأت ترتسم ملامح سلطة جديدة تتشكل من بقايا المؤسسات القائمة، مدعومة بتحالفات سياسية ناشئة بين بعض القوى المعارضة وشخصيات متخصصة بقيت على هامش الصراع خلال السنوات الماضية.
المثير في التوقيت أن الإعلان عن اللجنة أتى قبل عام كامل من موعد متوقّع للانتخابات البرلمانية، حسب مسودة الإعلان الدستوري المؤقت، ما يكشف عن رغبة مبكرة في “تأطير” العملية الانتقالية ضمن مسار شرعي انتخابي، يمنح المؤسسات القائمة غطاءً قانونياً، في وقت ما زال فيه التفاوض حول الدستور النهائي والحكومة الانتقالية جارياً بين الكتل السياسية في دمشق وبعض العواصم الإقليمية.
اللافت أن القرار جاء في توقيت مبكر نسبياً، ما يعكس توجهاً نحو تأطير العملية الانتقالية في سياق مؤسساتي، حتى قبل التوافق النهائي على مسودة الدستور أو شكل الحكومة الانتقالية، تشكيل اللجنة إذن ليس تفصيلاً إدارياً، بل هو تعبير عن رغبة واضحة في فرض إيقاع سياسي جديد، حتى ولو كان لا يحظى بإجماع وطني شامل حتى الآن، فهو إعلان ضمني بأن الصيغة الجديدة للسلطة باتت تملك من الأدوات الدستورية والتنظيمية ما يتيح لها التقدم خطوة نحو الشرعية.
بموجب القرار الرئاسي، تتكون اللجنة من 11 عضواً، يرأسهم القاضي محمد طه الأحمد، وتضم في عضويتها كلّاً من: حسن إبراهيم الدغيم، عماد يعقوب برق، لارا شاهر عيزوقي، نوار الياس نجمة، محمد علي محمد ياسين، محمد خضر ولي، محمد ياسر كحالة، حنان إبراهيم البلخي، بدر الجاموس، وأنس الحاج علي.
تتنوع خلفيات الأعضاء بين القانون والإدارة والحقوق، مع حضور محدود لبعض الشخصيات التي شاركت في مراحل تفاوضية أو مؤسسات محلية، دون أن تكون من رموز الصف الأول لأي طرف سياسي بارز، اللافت في التشكيلة الغياب الكامل لرموز النظام السابق، كما لا تضم وجوهاً من المعارضة الخارجية التقليدية، فيما يلاحظ مراقبون غياب ممثلين عن المعارضة الداخلية التي حافظت على تماسك نسبي داخل البلاد، وطرحت مواقف نقدية علنية دون ارتباط مباشر بأي محور إقليمي.
كما خلت اللجنة من تمثيل للقوى الكردية، رغم المطالبات المعلنة من المجلس الوطني الكردي والإدارة الذاتية بتثبيت تمثيل واضح ضمن مؤسسات المرحلة الانتقالية، بذلك، تبدو اللجنة أقرب إلى هيئة فنية ذات طابع مدني، أكثر منها هيئة توافقية تعبّر عن مختلف المكونات السياسية والمجتمعية، ما يثير تساؤلات حول مدى قدرتها على توليد ثقة عامة في بيئة ما تزال منقسمة سياسياً ومناطقياً.
رغم تركيز القرار بتشكيل اللجنة العليا للانتخابات على الجوانب الفنية والتنظيمية، إلا أن ما تبِعه من تحديد لتوزيع مقاعد البرلمان المؤقت حمل دلالات سياسية لا يمكن إغفالها، فقد تم الإعلان عن توزيع المقاعد على المحافظات السورية بما يراعي، وفق نص المرسوم، “الكثافة السكانية والتمثيل الجغرافي والعدالة السياسية”، لكن القراءة المتأنية لهذا التوزيع تُظهر معايير تتجاوز الجانب الفني، وتتقاطع مع اعتبارات أمنية ومناطقية وولاءات محلية.
أظهرت الخريطة الجديدة نوعاً من إعادة التوازن داخل الجغرافيا البرلمانية، مع تعزيز تمثيل بعض المناطق التي عانت سابقاً من تهميش مؤسسي، مقابل تقليص أو تثبيت حصة مناطق أخرى على نحو يثير التساؤلات، هذا التوزيع لم يتم فقط على أساس ديموغرافي تقني، بل بدا أيضاً كمحاولة لإعادة ضبط الوزن السياسي للمحافظات، بما يتلاءم مع خارطة السيطرة الجديدة، وحالة التحالفات المتغيرة على الأرض.
في بعض المناطق، اعتُبر التوزيع بمثابة إقرار ضمني بواقع إداري جديد، يعكس حجم النفوذ المحلي للقوى المدنية أو العسكرية المسيطرة، في حين رأى فيه آخرون نوعاً من المكافأة أو العقوبة غير المعلنة، بحسب درجة الانخراط أو الحياد في السنوات الأخيرة من الصراع، كما أن غياب التمثيل النوعي لا سيما لقوى سياسية ناشئة أو مكونات اجتماعية مؤثرة يعيد التذكير بأن العملية الانتخابية، وإن أُطرت قانونياً، ما زالت محكومة بتوازنات فوقية لم يُحسم أمرها بعد.
إذن، لم يكن توزيع المقاعد مجرد إجراء تقني، بل خطوة ذات بعد سياسي واضح، تشير إلى أن البرلمان المقبل لن يكون مجرد انعكاس لإرادة الناخبين، بل أيضاً نتاجاً لتفاهمات دقيقة ضمن دوائر السلطة الجديدة.
لم يأتِ تشكيل اللجنة العليا للانتخابات وتحديد إطار البرلمان الانتقالي مجرد خطوة إدارية في سياق إعادة ترتيب مؤسسات الدولة، بل جاء كأحد أبرز التحوّلات السياسية في المرحلة الراهنة، خصوصاً بعد صدور الإعلان الدستوري المؤقت في مارس/ آذار 2025، الذي أسّس لمرحلة جديدة تُعرف بـ”السلطة التنفيذية الانتقالية”.
لسنوات طويلة، ظلت العلاقة بين الجهاز التنفيذي والتشريعي غامضة أو غير متوازنة، وكان غياب برلمان فاعل من أبرز ملامح تلك المرحلة، أما اليوم، فإن الاتجاه إلى تأسيس سلطة تشريعية منتخبة يعكس محاولة لإعادة هيكلة المشهد السياسي من الداخل، ومنح العملية الانتقالية مؤسسات رسمية تؤطّر التغيير وتمنحه شرعية قانونية ولو جزئية.
في هذا السياق، لا تبدو اللجنة مجرد هيئة إشرافية على الانتخابات، بل فاعلاً مباشراً في بناء المرحلة القادمة، إذ إن الانتخابات المرتقبة، التي ستُجرى بإشرافها، قد تُفضي إلى تشكيل برلمان انتقالي يشارك في صياغة دستور جديد، ويضطلع بدور رقابي وتشريعي مواكب لتطورات الوضع السياسي، ضمن سقف الإعلان الدستوري.
كما أن اعتماد اللجنة كمرجعية مستقلة نسبياً، لا تتبع بشكل مباشر للحكومة التنفيذية، يفتح المجال أمام إمكانية تأديتها دوراً ضامناً ولو جزئياً للعملية الانتقالية، خصوصاً إذا توفرت البيئة المناسبة لإجراء انتخابات فعلية تشمل كامل الجغرافيا السورية أو تمثّل مختلف مكوناتها.
لكن رغم ذلك، ما يزال مسار الانتقال هشاً ومعقّداً، فنجاح هذا المسار لا يعتمد فقط على النوايا المعلنة أو النصوص الدستورية، بل أيضاً على مدى استعداد الفاعلين السياسيين لتقديم تنازلات حقيقية، وعلى قدرة المؤسسات الجديدة على العمل في بيئة ما تزال محكومة باعتبارات أمنية ومناطقية، وتفتقر إلى إجماع وطني شامل حول قواعد اللعبة المقبلة.
أثار تشكيل اللجنة العليا للانتخابات تفاعلات متفاوتة في الأوساط السياسية والمدنية، فبينما رأت فيها بعض الشخصيات المرتبطة بالهيئة التأسيسية خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تنظيم الانتخابات، بدا واضحاً أن الترحيب ظل مشوباً بالحذر، حتى من داخل المعسكر الداعم للمسار الانتقالي.
القلق الأبرز تمثّل في غياب آلية معلنة لاختيار أعضاء اللجنة، وهو ما أضعف الثقة في مدى شفافيتها أو استقلاليتها الكاملة، كذلك، أثار غياب أسماء معروفة من المعارضة الداخلية، أو ممثلين عن بعض المكونات السياسية والمجتمعية، تساؤلات حول مدى شمولية التمثيل في لحظة يُفترض أنها تأسيسية.
في المقابل، لم تسجَّل حتى الآن مواقف علنية من قوى معارضة رئيسية في الداخل أو الخارج، ما يعكس إما تحفظاً بانتظار اتضاح المسار، أو رفضاً ضمنياً لأي خطوة لا تأتي ضمن توافق وطني أوسع.
ضمن هذا السياق، لا يمكن اعتبار التشكيل بحد ذاته مؤشراً كافياً على تغير جذري في المعادلة السياسية، لكنه قد يكون في نظر البعض، بداية حذرة لتجريب أدوات جديدة في العمل السياسي، شرط أن تقترن بخطوات لاحقة أكثر وضوحاً، تشمل ضمانات جدية للنزاهة والتمثيل المتوازن.
في ضوء التطورات الحالية، تبدو اللجنة العليا للانتخابات اختباراً حقيقياً لمسار المرحلة الانتقالية في سوريا، والنجاح في إجراء انتخابات ذات مصداقية حتى لو محدودة النطاق قد يفتح الباب أمام استقرار سياسي نسبي، ويمنح المؤسسات الانتقالية غطاءً قانونياً يمكن البناء عليه.
لكن في حال فشل اللجنة في إدارة العملية الانتخابية بشكل مقبول وشفاف، فإن ذلك قد يؤدي إلى اهتزاز شرعية الهيئة التأسيسية، أو حتى إجهاض المسار الدستوري الناشئ، خصوصاً إذا ترافق ذلك مع تصعيد أمني أو مقاطعة سياسية واسعة.
أما السيناريو الثالث، فيقوم على إمكانية “تأجيل غير معلن” للانتخابات، أو حصرها في مناطق محدودة، وهو ما قد يُبقي الوضع في حالة جمود، دون انتقال حقيقي للسلطة أو تجديد للشرعية.
في كل الأحوال، فإن تشكيل اللجنة لا يمثل نهاية المطاف، بل مجرد خطوة أولى ضمن مسار طويل، يتطلب توافقات داخلية وضمانات خارجية، لإنتاج بيئة سياسية قابلة للاستمرار، وهو ما لم يتوفر حتى اللحظة بشكل كافٍ.