تأملات
تخيّل أنْ تكون موظّفاً مقرّباً لمديرك الذي يثق بك ويُوكِلُ لك أغلب المهام المهمة، ثمَّ فجأة يستغني عنك ويأتي بموظفٍ آخر يقرِّبهُ ويوكِلُ له المهام التي كان من المفترض أن تُوكَلَ إليك، ما هو شعورك ؟
طيب تخيّل لو اعتدتَ أنْ يبتسمَ لك شخصٌ ما كل يوم، ثم فجأة أشاح وجهه عنك كأنه لا يراك، ما شعورك؟
ذلك هو الاستبدال؛
معناه: (كنتُ قد منحتكَ، فاختبرتكَ، فرسبتَ، فسلبتُكَ، واستبدلتُكَ).
لذلك الاستبدال مخيف ومرعب، بل وقاسٍ للغاية، إذا كانت المواقف التي عرضتها سابقاً هي مواقف بشرية عادية في حياتنا اليومية، وإذا تعرضت لها ستشعر أنّكَ غير مرغوب، وأنّ الآخر لا يريدك، وذلك شعورٌ سيءٌ وقاسٍ جدّاً.
فكيف إذا قال الله عز وجلّ لك ( أنا لا أريدك يا فلان، إنك لا تليق بأنْ القي لك مهامي، افعلْ ما يحلو لك، وها أنا استبدلتك بآخر أثق به)
هل ستظلُّ سعيداً بهذا؟
أسأل هذا السؤال لأنه من عجب الدنيا أنني أعيش في زمنٍ يفرح الآن به الناس باستبدالهم، على صعيد كلِّ شيء على فكرة، بدءاً من تقديم العون للمحتاجين وقول كلمة الحق ونصرة المظلوم إلى أن أصل إلى حدّ نصرة من نَصَرَهُم الله ورسوله ﷺ وهم أهل الرباط أي أهل فلسطين وأخصّ في هذا الوقت ( أهل غزّة ).
لأكتشف سبحان الله أناساً ليس فقط استبدلهم الله عزوجلّ بل أصبحوا يرون الاستبدال حنكة وفراسة، وقد زُيِّنَ لهم استبدالهم إلى حدّ أنّهم يرون إدخال الطعام إلى قطاع غزّة عبر دولتهم مؤامرة كونية على أمنهم الاستراتيجي!
إذا كان الله استبدلك، على الأقل ابكِ على نفسك، ولا تبدأ بتزيين الاستبدال والمتاجرة به على أنّه حل قوميّ، ووالله إنّ نصرة فلسطين لن تنقص من عمرك دقيقة، ولن تأخذ منك شيئا قد قدره الله لك، ولن تعطيك شيئا لم يقدره الله لك، وعلى كل الاتجاهات يستحيل أن تجلب لك الكوارث، وإنّما نصرتها مدد واصطفاء وبركة وحبور ورضا من الله ورسوله ﷺ عليك، هذا ” لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد”
لماذا؟
لأنّ فلسطين درّة نبويّة فريدة، كلّما انفرطت حبّات عقد المسلم، جاءت فلسطين وعقدته، قد يختلف السنة والشيعة وقد يختلف المسيحيون والمسلمون، وقد يختلف الشرق والغرب، وقد تختلف اللغات، لكن سيجتمع الجميع على حبّ فلسطين وغزّة ونصرة أهلها وخاصّة مَنْ في صدره قلبٌ إنسانيّ حقيقيّ.
وإن أسوأ ما أجدهُ الآن في بند الاستبدال (الذين يروجون الفتنة بين المسلمين) باسم الطائفتين السنية والشيعية، تعجبني مواقف الأزهر الشريف الموحّدة دائماً للصفّ الإسلاميّ، وكأنّ السنيّ الذي يسبّ الشيعيّ نبيّ ولا يأتي بالموبقات وكأنّ أيضاً الشيعي الذي يسبّ السنيّ نبيّ ولا يأتي بالموبقات، والله لو نظرَ كل عبد إلى نفسه لاستحى منها، وما تجرأ أن يسبّ أخاه، وأن يدخل في إطار ( الشتم واللعن) وقد نهى رسولنا ﷺ عنه.
وأسوأ ما أنتجته أيضاً لنا الطائفية المقيتة وانعدام البصيرة مصطلحات لا أراها إلا بَلْهَاء، وحين أسمعها أشعر أنّني في غابة، مثل:
( أسد السنة أو أسد الشيعة وربما سنجد غداً أسد داعش وأسد الرويبضة وإلخ )
الذي يظنّ أنّه بمثل هذا يُفرِحُ النبيّ ﷺ فهو يُغضبه، وليس أسداً بل هو شيءٌ آخر أترفع عن وصفه، لذلك قال الله عز وجل في محكم تنزيله ( والفتنة أشدّ من القتل)، أمام ما يحدث في غزّة إما أن تقف مع غزّة أو إن لم تقف معها فاصمت على الأقل، ولا تنضح بإنائك أمام النّاس فتفضحك غزّة، كما فضحت عربا وعجما وحكومات وشعوبا ومنافقين!
يعني إذا كنتَ لا تستطيع أن تطلق رصاصة واحدة على الاحتلال، أو يا عيني لا تستطيع أن تدخل زجاجة ماء واحدة لنا نحن المحاصرين تحت الإبادة منذ عامين، فلا تضع خناجرك في ظهورنا العارية، وترينا قبح وجهك وسعادتك في أن يقصف الكيان مسلماً، وإن كان من طائفة أخرى فهو أخي في الإسلام رغماً عني وعنك، وإذا كنت بطلاً صنديداً وصاحب ثأر، اذهب واقصف إيران بنفسك، ولا تنتظر إسرائيل أن تقصفها لتُفرِحَك، فإنّي أجدُ ذلك من خوارم المروءة ونواقص الرجولة الفاضحة.
وإذا كنت مبتلياً، ولا تستطيع فعل ذلك، فاسترْ نفسك، ولا تفضحها، لأنّنا حقيقةً نعيش في آخر الزمان، وإذا لم يكن المسلمون أصحاب بصيرة هلكت الأمم، ولأنّ إيران باقيةٌ سواء اختلفت معها أو اتفقت، وإسرائيل زائلة رغماً عنك وإن ظننت أنها حرزُ أمانك فما هي إلّا حِرزُ سقوطك واختبارٌ إلهي رسبتَ به!
ثمّ دعوا الخلق للخالق، لا نعرف بماذا يقبل الله عزّ وجلّ عباده، وبماذا يغفر لهم، وكيف الله عزّوجل يصنع الكون بمقدار عظيم، وإنّ كل ما يحدث هو على عين الله عزّوجلّ، لقد غفر الله عز وجل لرجلٍ قتل مئة نفس في الحديث الشريف، قد تَصْدُقُ نيّةُ المرء فتجبُّ عنه كل ذنب كان له من قبل، وقد يشارك بأمر هو عظيم عند الله عزوجل فيجُبُّ عنه كل عمل سيء بعده مثلما قال النبي لأهل بدر ( ما ضرّكم ما فعلتم بعد يومكم هذا )، وما أدرانا نحن، حتى هنالك حديث نبويّ ورد في سنن الترمذي يقول بما معناه أن الجيش الذي سيشارك أهل فلسطين التحرير سيخرج من خرسان، وأينَ تقع خرسان؟ هي منطقة موجودة بين إيران وأفغانستان وباكستان، ما كان لحبيبي رسول الله ﷺ أن ينطق عن الهوى.
أمّا حماقات نعت إيران بالمجوسية فهذه حماقة ليس بعدها حماقة لأنّ الإسلام يَجُبُّ ما قبلَه، ولأنّك إذا قلت للإيراني مجوسيّ، فحقّ له أن يقول لك يا عابد الأصنام أو يا وثنيّ على اعتبار أنّ أجدادك العرب كانوا قبل الإسلام يعبدون الأصنام.
أتعتقدون أن الرسول ﷺ يفرح بهذه المسبات والشتائم والهرطقات، بل أنت محاسب على كل حرف وعلّك تقول الكلمة بالبهتان لرجل مسلم تنزل بها سبعين خريفاً بالنّار.
وفي أهل فارس فإنّ النبي ﷺ يحبهم، وشاهدي على ذلك محبته الشديدة لسيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه وذلك أنّني بحثت طويلاً عن صحابيّ آخر قد ضمّه الرسول ﷺ لآل البيت فلم أجد إلا سلمان الفارسيّ حينما قال له: (سلمان منّا آل البيت)، وفي ذلك خصوصية شديدة لم ينلها أحدٌ غيره، وأستشهد على هذا بحديث الكساء حينما ضمّ الرسول ﷺ سيدنا علي وسيدتنا فاطمة وسيدي الحسن وسيدي الحسن عليهم السلام تحت عباءته، وقال “اللهم هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيرا” فقالت له السيدة أم سلمة ( وأنا معهم؟) فقال: مكانكِ وأنتِ على خير.
لماذا لم يُدخل الرسول ﷺ السيدة أم سلمة معهم تحت الكساء؟ لأنّ لآل البيت خصوصية ليست لغيرهم، لكنّ سيّدنا سلمان الفارسيّ وصل لهذه المرتبة بسرٍّ أدركه الرسول ﷺ فيه، حتّى ربت يوماً الرسول ﷺ على سلمان وقال له في الحديث الشريف: ( لو كان الدين عند الثريا، لناله رجال من أبناء فارس) كما رواه البخاري.
فوجدنا بذلك الإمام أبو حنيفة النعمان، والبخاري، والترمذي، ومسلم، والرازي، والطبري فقهاء وعلماء لا يحصون، وبينما العرب لم يستطيعوا تطوير صاروخ لليوم عابر للقارات فقد فعل الأتراك والإيرانيون والباكستانيون ذلك، بل وقد خصّ الله ( باكستان العجمية بامتلاك سلاح نوويّ أيضاً)، أي استبدل الله العرب المسلمين بالعجم المسلمين.
وأختم بهذه الآية القرآنية ” وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” ليس فقط يستبدل الله عز وجل القوم الذي لا يريده، بل يخبرنا هنا أنّ (البديل الذي اختاره) هو أكثر خيرية ممن تم استبعاده، وقد تسببت كل أسباب الدنيا ليستعمل الله عزوجل العرب في نصره فلسطين إلا أنّهم تولّوا للأسف، حتى أننا فرحنا بمظاهرات الجامعات الأمريكية وببسالة طلابها التي لا يجمعنا معهم عِرق ولا لغة ولا دين، وأستثني من العرب اليمن ولبنان وكل حرّ شريف عربي أو عجمي.
وفي النهاية لا يستعمل الله عزوجل إلا بصير قلب، ولا يستبدل إلا أعمى قلب
وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.