مدونات

 تأملات في الحرب الإيرانية الإسرائيلية وخراب الضمير العربي!

يونيو 20, 2025

 تأملات في الحرب الإيرانية الإسرائيلية وخراب الضمير العربي!

للكاتب: إسلام حافظ

 

ما أكثر من يلومون إيران حين تُطلق صواريخها، وما أقل من يفتح فمه حين تُدفن غزة تحت الأنقاض. يرتفع العويل في العواصم العربية والغربية كلما تحرّكت طهران، وتُعقد القمم الطارئة وتُصدر بيانات الشجب الرنانة، وكأنّ الرد على آلة القتل الإسرائيلية جريمة، بينما المجازر اليومية في فلسطين تُمرَّر كأحداث طبيعية، أو كحق مشروع في “الدفاع عن النفس”. هكذا يُقلب الميزان، ويُشوّه المنطق، ويُغتال العدل بدمٍ بارد في عالم يُتقن الكيل بمكيالين، بل بعشرات المكاييل، بحسب الهوية والمصلحة والجهة التي تضغط على الزناد.

إيران، التي وإن لم تكن بريئة من الحسابات السياسية، تتحرك في مشهدٍ مسموم بالصمت العربي والانحياز الغربي، وسط حفلة نفاق دولية تُدين من يرد، وتتغافل عن من يَقتل. إنها ليست مسألة تأييد لطرف ضد آخر، بل قضية أخلاقية خالصة: لماذا تتحول المقاومة إلى “إرهاب” إن لم تكن غربية الصنع؟ ولماذا يصبح الرد فعلًا مرفوضًا حين لا يصدر عن حليف استراتيجي؟ لماذا يُسمح لإسرائيل أن تقصف، وتغتال، وتدمّر، بينما يُطلب من الآخرين أن يكونوا “عقلانيين”، أي صامتين، أو خاضعين، أو في أفضل الأحوال، منشغلين بالوساطات؟

هذا هو قلب المأساة: ليست الحرب فقط بين إسرائيل وإيران، بل بين حقيقتين متصارعتين؛ الأولى تحاول أن تحتكر رواية “الشر”، فتوزّعها كما تشاء، والثانية تُحاول أن تُذكّر العالم بأن الاحتلال، أيًّا كان من يمارسه، يظل أبشع أشكال الجريمة. وفي هذه الساحة المشحونة، يتوارى العالم العربي، كما عوّدنا، إما تواطؤًا وإما خذلانًا، كأن الدم الفلسطيني لا يعنيه، وكأن العدل لم يعد من أبجديات وجوده، بل من ترف الخطابة الذي يُستدعى فقط في المناسبات.

في قلب هذه المأساة، يكاد يتوارى الإنسان، وتنطفئ الأسئلة العظيمة التي كانت تُطرح في حضارات سابقة عن معنى العدل والحق والكرامة. إذ تُستبدل تلك الأسئلة بخطابات متعالية عن الردع، وموازين القوى، و”الحق في الدفاع عن النفس”، وكأن الأرض خالية من البشر، لا سكان فيها سوى الجيوش والميكروفونات.


في هذا المشهد المعقّد، يبدو العالم العربي – أو ما تبقّى منه ككيان رمزي – كأنه خارج الزمن، كأنه يتفرّج على صراعٍ ليس له فيه يد، ولا رأي، ولا حتى وجدان. كأنّ الدم المسفوك في غزة، والتصعيد المتسارع في سماء المنطقة، لا يعنيه من قريب أو بعيد، إلا بقدر ما يتطلبه الموقف من بيان صحفي مقتضب، أو تغريدة مترددة، أو مؤتمر خجول لا يسمن ولا يغني من حزن. فأين هم العرب من كل ذلك؟ أين اختفت الشعارات التي كانت تصدح بها المنابر عن “وحدة المصير” و”العدو المشترك”؟ كيف تحوّل “العدو الصهيوني” إلى “شريك اقتصادي”، و”وسيط إقليمي”؟ بل كيف تحوّلت بعض العواصم العربية إلى محطات تطبيع وابتسامات رسمية، تتزامن مع القصف الوحشي على قطاع غزة، وكأنّ الأرواح الفلسطينية لا تستحق حتى لحظة صمت؟


إنّ مقارنة ما يجري الآن بما جرى في غزة من فصول إبادة موثقة، يُعيدنا إلى جوهر القضية: ليس في الصراع بين إيران وإسرائيل ما يختلف جوهريًا عن مأساة غزة، سوى أن الأولى تُخاض بين قوتين، كلٌ منهما يدّعي الأخلاق على طريقته، بينما الثانية هي فعل تطهيري ممنهج لشعب بأكمله، لا لشيء، سوى لأنه وُلد في المكان الخطأ، في الزمن الخطأ، تحت الاحتلال.

لقد تحوّلت غزة إلى مرآة تعكس القبح المتراكم في العالم. مرآة تكشف أن الحقوق تُحسب بالقوة، لا بالعدالة. أن الضحية إذا لم تصرخ بما يكفي، يُعاد تعريفها كمعتدٍ. أن الأطفال إذا لم يصرخوا أمام الكاميرات، فلن يُذكروا في الأخبار. هذا ما فعلته إسرائيل، تحت أنظار العالم الذي لم يتحرك إلا عندما ردّت إيران.

أما إيران، فعلى الرغم من دوافعها السياسية التي لا تخفى، فإنها لا تخوض هذه المواجهة نصرةً لفلسطين فقط، بل أيضًا من أجل ترسيخ حضورها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها في أي معادلة تخص المنطقة. إنها توازن بين شعارات المقاومة ومصالح الدولة، وتخوض معركتها بسيفين: سيف العقيدة وسيف النفوذ. فدعمها للفصائل الفلسطينية لا يُفهم بمعزل عن سعيها لتوسيع عمقها الاستراتيجي، تمامًا كما أن ضرباتها ضد إسرائيل لا تنفصل عن صراعها الممتد مع واشنطن وحلفائها.

ومع ذلك، فإن هذا الحضور الإيراني، وإن كان ملتبسًا ومشحونًا بالحسابات، يبقى في نظر الشعوب أكثر جرأة من الموقف العربي المترهل. لقد تحركت إيران حينما صمت غيرها، ورفعت الصوت حين اختارت الأنظمة العربية أن تهمس خلسة. قد نختلف مع سياساتها، وقد ننتقد توظيفها للقضية الفلسطينية في معاركها الخاصة، لكن لا يمكن إنكار أنها – بإرادتها أو رغمًا عنها – كسرت حاجز الصمت، وأربكت حسابات الكيان الإسرائيلي، وفضحت نفاق الغرب، ووضعت العرب في موقف حرج لم يعتادوه: أن يُسألوا ماذا فعلوا، لا ما قالوا.


فإيران لا تدّعي الطهر الثوري، لكنها أيضاً لا تتوارى خلف الابتسامات الدبلوماسية حين تُقصف غزة أو تُحاصر القدس. إنها تفعل، بينما الآخرون يتأملون. تتحرك، بينما معظم الأنظمة العربية تكتفي بالمراقبة، كمن ينتظر نتيجة معركة لا يعنيه من ينتصر فيها، بقدر ما يخشى فقط أن تُعكّر صفو علاقاته الدولية أو تتهدد مصالحه التجارية.

المؤلم أن هذا الصراع كشف هشاشة البنية الأخلاقية للعالم، لا سيما في الغرب الذي انحاز بكل وقاحة إلى دولة احتلال، لم تعرف في تاريخها معنى للرحمة، ولا في خطابها رائحة للعدالة. إسرائيل ليست دولة طبيعية، بل كيان يقوم على الطرد، والتطهير، والخراب، ويقتات على الألم الفلسطيني كما يقتات المفترس على فريسته. إنها دولة تقتل ثم تبكي، تُدمّر ثم تدّعي الدفاع، تُحاصر ثم تزعم أنها محاصرة، ولا تُجيد من الإنسانية إلا قناعها حين يُناسب اللقطة.

فأي إنسانية تُطلب من محتل؟ وأي عدالة تُرجى من غاصب؟ وأي حوار يُعقد مع كيانٍ لا يرى في الآخر إلا عبئًا يجب أن يُمحى؟ إن الحديث عن التعايش مع الاحتلال ضربٌ من العبث، والتفاوض معه سرابٌ في صحراء الدم، والسعي إلى “توازن” معه خيانة لجوهر الإنسان. فالاحتلال لا يُقارع بالمجاملات، بل بالمقاومة. لا يُواجه بالحياد، بل بالموقف. لا يُكسر بالصمت، بل بالحق الناطق الصارخ.


وحين يسقط هذا التوازن المزيّف، ويُكشف هذا الزيف الأخلاقي العالمي، لن يبقى لنا إلا الكلمة المقاومة، والكلمة الشاهدة، والكلمة التي تشبه الطلقة، وتكسر الصمت، وتفتح كوة في جدار الخذلان. الكلمة التي تقول ما يجب أن يُقال، لا ما يُسمح أن يُقال. فهل نكتب تلك الكلمة، ونحملها كراية، أم ننتظر دورنا في الطابور الطويل للعار، حيث تُوزّع بيانات الشجب كالأكفان، ويُبنى صرح التطبيع على أنقاض المقابر الجماعية؟

شارك

مقالات ذات صلة