آراء

أنارَت لهم طريق المجد، وتركوها وحيدة في الظلام.. Madame Sousatzka

يونيو 20, 2025

أنارَت لهم طريق المجد، وتركوها وحيدة في الظلام.. Madame Sousatzka

“Madame Sousatzka” أو “السيدة سوزاتزكا”، الذي أُنتِجَ في عام 1988 هو واحد من الأفلام المظلومة في هوليوود، رغم أنّه من الروائع، فلم يتم تقديره بالصورة التي يستحقها، ولم يحقّق نجاحًا على المستوى الجماهيري، إلّا أنّه نال إعجاب النقّاد، ولكن في يومنا هذا بات الفيلم مغمورًا ومنسيًّا، كما أنّه لم يصدر بنسخة البلوراي، وأفضل نسخة رسمية متوفرة للفيلم هي نسخة الديفيدي وجودتها متواضعة.

 

الفيلم من إخراج “جون شلسينغر”، الذي قام بكتابة النص السينمائي مع الكاتبة “روث براور جابفالا”، وقد ساهم في الكتابة أيضًا “بيتر مورغان” و”مارك وادلو”، باقتباسه من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتبة “بيرنيس روبنز”، التي أصدرتها في عام 1962.

تدور معظم أحداث الفيلم في شقة السيدة “إيرينا سوزاتزكا”، وهي معلمة بيانو مسنّة تعيش لوحدها، ولديها طالب جديد يدعى “مانيك”، وهو فتى هندي مراهق يذهب يوميًا إلى شقتها لتعلّم العزف على البيانو، لكن ما يتعلّمه هناك يتجاوز النوتات وحركات الأصابع. إنه يتلّقى دروسًا مكثّفة في الحياة، وفي الانضباط، وفي الصبر، وفي الانتباه لتفاصيل الجسد والروح: كيف يجلس، وكيف يتنفس، وكيف يرفع مرفقيه، وكيف يصغي لصوته الداخلي.

في شقتها نرى صورًا للطلاب الأوائل الذين تلّقوا نفس الدروس قبل أن ينطلقوا إلى العالم ليصبحوا عظماء أو مغمورين، ومع ذلك لا تزال “سوزاتزكا” قابعة في مكانها كملاك حارس للموهبة حين تراها في الآخرين، وهي مؤمنة بالفتى “مانيك” وتتوقع له مستقبلًا زاهرًا، وترى أنها الوحيدة القادرة على إعداده لذلك.

لكننا كمشاهدين، نبقى طوال الفيلم متأرجحين: هل “سوزاتزكا” بالفعل معلمة فذّة تنحت العظماء؟ أم أنها روح مكسورة تتشبّث بوهم التعليم لتنسى ماضيها الموجع وفشلها؟ حين كانت فتاة دفعتها والدتها إلى خشبة المسرح لتعزف في حفلتها الموسيقية الأولى ولم تكن مستعدة، فانهارت أثناء أداء العرض، وفرّت من الخشبة، ممّا ترك في أعماقها جرحًا مفتوحًا، وإذلالًا يراودها في كوابيسها، ولهذا السبب هي ترفض بشدّة أن يعتلي طلّابها الخشبة قبل أن يكونوا على أتمّ الاستعداد، ولسوء الحظ، فإن كبرياءها وعنادها لا يجعلانها تعترف بأنهم مستعدون، ولذلك فإن جميع طلابها مجبرون عاجلًا أم آجلًا على تركها.

يبلغ الفيلم ذروته الوجدانية في أداء “شيرلي ماكلين” المذهل ، حيث جعلت من “سوزاتزكا” شخصية نابضة بالإنسانية، ومتناقضة ككل العظماء، قوية وصلبة من الخارج، وهشّة وخائفة من الداخل، بملامحها الحادّة، وصوتها المخنوق بالذكريات. لقد جسّدت في شخصيتها الدفء والخوف والحب، والخذلان والضياع. “سوزاتزكا” هي معلمة بيانو، لكنها أيضًا أمّ بديلة لطلّابها، وطفلة لا تزال خائفة من ماضيها.

 

شارك في البطولة أيضًا “نافين تشودري” بشخصية “مانيك سين”، و”بيغي أشكروفت” بشخصية الجارة المسنّة السيدة “إميلي”، و”تويغي” بشخصية الشابة “جيني”، و”شابانا آزمي” بشخصية “سوشيلا”، وقد قدّموا أداءً جميلًا.

من خلف كل حوار، تنبعث أجمل معزوفات البيانو الكلاسيكية لـ “شوبان” و”بيتهوفن” و”شوبيرت” و”شومان” لتصبح روح الفيلم، وفي كل مرة يلمس فيها “مانيك” مفاتيح البيانو نعرف أنه يلمس ماضي معلمته، وطموحه الشخصي، ووحدته، وتمرّده، ومن خلال صوت البيانو يتشكّل إيقاع الفيلم وسكونه وانفجاره العاطفي.

 

الفيلم لا يدور حول الحفلة الموسيقية ولا حول الشهرة، بل حول الكفاح اليومي مع ذلك الفتى الذي يصرّ على أن يواصل دروسه كل يوم، ليس لأنه يريد أن يُصفّق له الآخرين، بل لأنه يؤمن بموهبته وبقدراته، وحول تلك المرأة التي تعيش على أمل أن لا يفشل طالبها كما فشلت هي.

“سوزاتزكا” منحت طلّابها أصواتهم، ووهبتهم ثقتها، وصنعت منهم نجومًا أبهروا العالم، لكّنها لم تجد لنفسها مكانًا معهم. لقد كانت معلمة، ومربية، وملهمة، إلّا أنّها لم تكن يومًا البطلة في قصتها، وأفنت حياتها تصقل المواهب، وتُطارد الكمال، وتغرس البيانو في أرواح من يمرّون بها، ثم يرحلون دون عودة، وتظل وحيدة.

 

إنّه فيلم رائع ومؤثّر ونادر يحب الموسيقى ويحب الأشخاص الذين يحبونها، ويكرّم أولئك الذين يصنعون المجد للآخرين ولا يحصلون على شيء في المقابل، سوى الأمل.

شارك

مقالات ذات صلة