أدب

الصبر الدبلوماسي.. أسرار مذكرات وزير الخارجية جواد ظريف (2)

الصبر الدبلوماسي.. أسرار مذكرات وزير الخارجية جواد ظريف (2)

وساطة كويتية بين إيران والسعودية

نستكمل عرض ملفات مذكرات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التي صدرت مؤخرًا عن دار هاشم في بيروت بعنوان “صمود الدبلوماسية.. مذكرات ثماني سنوات في وزارة الخارجية“. انزعج وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في مذكراته من تعليقات الصحافة المحلية في إيران حول ظهور صورته مع أمير الكويت خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ اعتبروا أنه من غير اللائق ركوع وزير الخارجية الإيراني مع الأمير بهذا الشكل في الأمم المتحدة، لكن جواد ظريف يكشف عن قصة الصورة.

بعد حادثة مِنى التي مات فيها نحو 450 مواطنًا إيرانيًّا في الحج بسبب التدافع، أصبحت إعادة جثامين الإيرانيين إلى بلادهم هي الأولوية. يقول ظريف إنَّ السعودية يبدو أنها كانت تنوي دفن الموتى في السعودية، وقررت إيران إرسال وقد برئاسة وزير الصحة آنذاك، وإيفاد نائب قنصل وزير الخارجية إلى السعودية، لمنع الدفن في السعودية ومتابعة تحديد هوية الجثامين وإعادتها إلى إيران، لكن السفارة السعودية في طهران امتنعت عن إصدار تأشيرات وتصاريح الطيران، وفي هذه الفترة كان ظريف في نيويورك في الأمم المتحدة وانتبه إلى وجود أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، وكان ظريف يعرفه منذ توليه منصب وزير الخارجية.

انتهز ظريف الفرصة وذهب إلى طاولة دولة الكويت لمتابعة تأشيرة الوفد الإيراني. يشرح وزير الخارجية أنه جلس على ركبتيه لأن الحديث وقوفًا يُخِلُّ بنظام الاجتماع في الأمم المتحدة، خصوصًا في أثناء خطاب رئيس دولة، وأن ذلك يخالف الأدب والعرف الدبلوماسي، فهو يمتلك خبرة تناهز ثلاثين عامًا في الأمم المتحدة ومثل هذه اللقاءات، وبناءً على العرف السائد، وبعيدًا عن العقول المريضة للبعض في الداخل الإيراني، جلس ظريف بجوار كرسي أمير الكويت، واستمع الأمير إلى مخاوف الحكومة الإيرانية بكل احترام وأمر على الفور بالمتابعة، وخلال ساعات قليلة أعلن وزير الخارجية الكويتي أنه تم تجهيز التأشيرات وتصاريح الطيران للإيرانيين إلى السعودية. وانطلق الوفد الإيراني إلى جدة في تلك الليلة، وتمكَّن بجهد كبير من التعرّف على جثامين جميع الإيرانيين وإعادتها إلى البلاد.

تحوَّل الأمر إلى جدل إعلامي في إيران، وقالوا: كيف يركع وزير خارجية البلاد أمام أمير الكويت وجلب العار لها؟ وبعد نحو ثماني سنوات، وعلى الرغم من التوضيحات المكثفة وعرض الصور المحلية والأجنبيّة مرّاتٍ عدةً لهذه العادة الدوليّة السائدة حتّى في اجتماعات برلماننا، فإنهم في كل مرة تضيق بهم السبل في هجماتهم على السياسة الخارجية يعودون لرفع هذه الصورة.


الهجوم على السفارة السعودية

يرى ظريف أن الهجوم الإيراني على السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مشهد مشبوه جدًّا، ويُعتبر هذا الهجوم مؤامرة خُطِّط لها ونُفِّذت دون أي منفعة، مؤامرة أضرَّت بإيران والنظام، وانتهت لصالح السعودية. ويرى ظريف أن هذه الحادثة من أكثر الحوادث مرارة خلال فترة تولِّيه الوزارة.

ويروي ظريف أن الكويت قدَّمَت مقترحًا لإيران للحوار بين إيران ومجلس التعاون الخليجي، وسمع ظريف من وزراء خارجية دول أعضاء في مجلس التعاون الخليجي أنه عندما قدم أمير الكويت مقترح الرئيس الإيراني روحاني في قمة المنامة، قال ملك البحرين: “إنَّ ترامب قد فاز بالانتخابات الآن، وبدأ سياسة الضغط على إيران، ولذلك ينبغي التريث وعدم الاستعجال في هذا الحوار مع إيران، حتى يؤثر ضغط ترامب على إيران، وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدث مع إيران من موقع القوة”، وهكذا فشل مقترح أمير الكويت في اجتماع المنامة من وجهة نظر ظريف، الذي عُقد في ربيع عام 2017.

يكشف ظريف أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2216، المتخَذ في 14 أبريل 2015، والذي نص على فرض عقوبات تمثلت في تجميد أرصدة وحظر السفر إلى الخارج، طالت زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي، وأحمد علي عبد الله صالح نجل الرئيس السابق، والقائد السابق للحرس الجمهوري اليمني، المتَّهَمين بـ«تقويض السلام والأمن والاستقرار» في اليمن.

شمل القرار حظر توريد الأسلحة والعتاد ووسائل النقل العسكرية. يوضح ظريف في مذكراته ملابسات القرار، إذ كانت إيران تتمنَّى أن يحصل على فيتو في مجلس الأمن واعتراض من روسيا، لكن وفقًا لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي أخبر جواد ظريف، جَرَت مكالمة هاتفية بين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الروسي بوتين في الليلة التي سبقت التصويت، لإقناع روسيا بعدم التصويت ضد القرار، وامتنعت روسيا عن التصويت في الأمم المتحدة. والقصة توضح دلالات التواصل الدولي في ما يخص ملفات اليمن وإيران.


إيران العظمى وحسد السعودية

يتحدث جواد ظريف باستعلاء كبير عن بلده إيران ويرى أنها هي الدولة الوحيدة بين جيرانها التي لديها تاريخ حضاري مستمر، ويرى أن الدول الأخرى هي ناتجة عن الانقسامات والخطوط الاستعمارية التي أنتجتها الدولة العثمانية أو بعد انهيارها على يد بريطانيا. وهذا كلام غير دقيق في أصالة كثير من بلدان الخليج مثل عمان التي كان لها حضور ممتد وتاريخي على طول ساحل الخليج العربي، لكن ظريف يرى إيران بهذا النفَس المميز، ويرى ظريف إيران دولة حضارة، بل إنها تتفوق على الدول المجاورة في الخليج من خلال عناصر القوة مثل الموارد الطبيعية، والموقع الجغرافي، وعدد السكان، والقوة البشرية، بل تصل الأمور في نظرته إلى القول إنّ جذور الخلاف بين السعودية وإيران تعود إلى حسد حكام السعودية تجاه إيران، وإن هذا الحسد هو أساس كل الإخفاقات في المنطقة. وهذا كلام أقرب للأساطير، وأنقله لتوضيح العقلية الإيرانية في التعاطي مع الخليج والجزيرة العربية.


حرب اليمن.. وجهة نظر إيرانية

في ذروة محادثات الاتفاق النووي في عام 2015، بلّغ قاسم سليماني جواد ظريف بأهمية الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار في اليمن، وتابع ظريف التواصل مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي وافق بدوره على الهدنة، ونقل كيري المقترح إلى السعودية من خلال عادل الجبير سفير السعودية في واشنطن. ويحكي ظريف قصة الهدنة في سرد مشوق في الصفحة رقم 269، فقد ركب ظريف طائرة إلى إندونيسيا، وهذا سيجعله بلا تواصل لمدة ثماني ساعات. وأبلغ كيري بأنه إذا وافقت السعودية فعليه أن يبلغ مساعد ظريف في طهران حتى يوصل المساعد الخبر إلى قاسم سليماني، الذي سيبلغ الحوثيين في اليمن. وظريف يمزح مع كيري بأنه لا توجد اتصالات على الطائرة الرئاسية بسبب العقوبات الأمريكية. والأهم أن ظريف الذي ينفي تدخُّل إيران في العواصم العربية لا يجد أدنى غرابة في رعاية طهران لهدنة بين اليمن والسعودية. وفي النهاية ردَّ ولي العهد محمد بن سلمان برفض الهدنة وأبلغ كيري أنه يستطيع أن يحسم الحرب خلال ثلاثة أسابيع، ويردّ ظريف بالقول: “بدلًا من ثلاثة أسابيع مرَّت ثماني سنوات من الحرب والسعودية لا تزال عالقة في مستنقع اليمن”.


‏السيستاني يقرأ مرتين!

يقول جواد ظريف في مذكراته عن أهم الشخصيات التي التقاها: “ولعلَّ أهمَّ ذكرى من الزيارة الأولى للعراق كانت اللقاء مع آية الله العظمى السيد علي السيستاني. لقد أكرمنا للغاية. زرته مرتين خلال زيارتين، كما التقيته في زيارة أخرى كنتُ فيها برفقة رئيس الجمهوريّة. بالإضافة إلى شخصيته الممتازة، هو خبير واسع الاطلاع والمعرفة، وله دراسات واسعة في مختلف المجالات. في اللقاء الأول، قال إنّه قرأ كتابي {سعادة السفير} -الذي كان قد صدر للتو- مرتين”.

وموضوع القراءة مرتين ذكّرني بما حكاه الدبلوماسي زلماي خليل زاد في مذكراته “السفير” عن الوسيط العراقي الذي بلغه إعجاب السيستاني بالدستور الأفغاني وأنه قرأه مرتين! واتصل زلماي بالرئيس الأفغاني حامد كرزاي حتى يذكّره بصيغة الدستور الأفغاني في التعامل مع الشريعة الإسلامية.

وعلى سيرة قراءات السيستاني، فقد زار الرئيس العراقي فؤاد معصوم النجف وتقابل مع آية الله السيستاني، وساعتها رأى الرئيس معصوم السيستاني يقرأ في كتاب “العمق الاستراتيجي” لداوود أوغلو، بل إنّ الإمام يقرأ لإدوارد سعيد، ويبحث عن كتب هيكل.

فعندما تقابل الأخضر الإبراهيمي مع السيستاني قال له الأخير: “أنا أعرفك، وقرأت عنك كثيرًا، وآخر ما قرأته كان عن لقائك في لندن مع محمد حسنين هيكل وإدوارد سعيد”. وأضاف قائلًا: “أنا قرأت ما تُرجم من كتب لإدوارد سعيد، وقرأت أيضًا كتب هيكل”، فقال له الإبراهيمي: «سأرسل إليكم كتب هيكل الأخيرة»، فشكره السيستاني.


أهمية مذكرات جواد ظريف

تُعتبر هذه المذكرات مهمة لأنها تحتوي على كثير من القضايا السياسية. ظريف يحلل بالتفصيل الموقف الإيراني من تركيا، ورغم كثير من الخلافات في الملف السوري، لكن يظهر حرص الجانب الإيراني على العلاقات التركية. وتشرح المذكرات بإسهاب كيف تفاهمت تركيا مع روسيا في الملف السوري بعيدًا عن إيران، وكيف رتبت روسيا اللقاء بين علي مملوك مدير المخابرات السورية، وهو مستشار أمني وعسكري خاص للرئيس السابق بشار الأسد، وبين هاكان فيدان رئيس المخابرات التركية، وانطلقت الاجتماعات الثلاثية بين تركيا وسوريا وروسيا ولم تُدْعَ إيران.

يشرح ظريف تفاصيل غضب قاسم سليماني -قبل قتله- من روسيا في الملف السوري، ويخلص ظريف إلى أن الروس طالما تركوا إيران وحدها في سوريا، ربما كانوا قد اتفقوا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأقنعوا بشار الأسد بالمضي معهم، أو أنهم اتفقوا مع إسرائيل وأجبروا الأسد على مُجاراتهم أيضًا، أو اتفقوا مع الأتراك، المهم أنهم تفاهموا بعيدًا عن إيران حتى في تفاهمات أستانا. ويؤكد ظريف أن روسيا لا تريد أن تصبح علاقة إيران بالغرب والولايات المتحدة طبيعية.

توجد قصة مهمة يذكرها وزير الخارجية عن اصطحاب جواد ظريف شخصية من البرلمان الإيراني إلى اجتماع مع الروس، مما أدى إلى إفشاء سرّ صفقة لبيع النفط مع روسيا، إذ صرح هذا النائب بتفاصيل الصفقة، مما أدى إلى تهديد وزارة الخارجية الأمريكية شركات النفط الروسية بأنها لو تعاملت مع إيران فسوف تنزل العقوبات عليها.

هنا يعلّق ظريف بأن الدبلوماسية لا تدار بالتصريحات الإعلامية، بل بالرحلات والاجتماعات السرية. من المهم أن يقرأ المهتم بالملف السوري مذكّرات جواد ظريف لأن فيها تفاصيل حول تفاهمات أستانا والموقف من سوريا، وكيف دعا وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الإيرانيين إلى التفاهم الدبلوماسي بعد الاتفاق النووي في ما يخصّ سوريا، وترك المهرجين الآخرين. ولفظ “المهرجين” من المذكرات.

من الملفات التي تتعلق بزمن الحرب الذي نعيشه بين إيران وإسرائيل هو قضية أمننة إيران على المستوي العالمي، وتحويل ملف إيران إلى دولة مارقة، لأن ظريف يرى أن الإيرانيين يعانون من اشمئزاز من المجتمع الدولي، مما يقلل قدراتهم في التعامل مع مؤسسات مثل مجلس الأمن. وأمننة إيران أي تحويلها إلى ملف أمني للدول، وأنها دولة مزعجة يسهل على العالم تقبُّل قصفها والهجوم عليها.

لعل هذه المذكرات مفيدة للدبلوماسي الشاب والقارئ المهتم بالمنطقة والباحث في الشأن السياسي في ما يخصُّ سوريا وتركيا والخليج والصين والعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفيها يحلل ظريف شخصية وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وهي تفاصيل مهمة عن هذه الشخصية الروسية، وتحليل لمكامن قوتها الدبلوماسية وخبرتها العالية في دهاليز مجلس الأمن، هذه إطلالة على الكتاب لتفتح باب المناقشة حول سياسات إيران في المنطقة، من رجل قال: “ينبغي أن تبتسم دائما في المساعي الدبلوماسية.. لكن على ألا تنسى أبدا أنك تحادث عدوا.”

شارك

مقالات ذات صلة