آراء

إلى الفارس الذي خسرت برحيله أمة كاملة!

يونيو 18, 2025

إلى الفارس الذي خسرت برحيله أمة كاملة!

إلى الرجل المسجى في قبره الذي لم يشيعه إليه أحد سوى رهط من أهله، الذين تفرقوا بعده بين أسير وشهيد وطريد، إلى الرجل الذي قال كلمته ثم مشى ومن بعده ملايين الكلمات التي تناديه بالله أن يعود، إلى الرجل الذي قيل عنه ما قيل، إلا أن يكون خؤونا لأمانته، أو مهدرًا لكرامته، فجنى تقدير الخصوم بهيبته وإن أنكروه، وأشعل ندم المحبين الذين فقدوه، ورحل شهمًا سميًّا، تشمله الكرامة، وتحمله الشهادة، ولا تكفي لغسله دموع أمة كاملة، تشيعه في كل ذكرى، وتذكره في كل تشييع، لشهيد لم يكن ربما ليموت، جوعًا على الأقل، إن كان ما زال في الحكم ذلك الراجل نحو شرفه، حيا وميتا.


واقفًا في محراب المسجد، يقول بعد صلاة فجر مع القوم، إنه لن يترك غزة وحدها، كانت الدماء السائلة أنهارًا في القطاع المحاصر تجد من يمسحها بأرض القاهرة، كان الشهيد الذي يسقط في خانيونس يُسمع ارتطام جسده بالأرض في رمسيس، كانت الأم التي تصرخ على وليدها في الشجاعية تجد صدى لصوتها في جنبات الجيزة، كان بحر غزة يموج حزنا وكمدا فيجد لمده جزرًا في مياه الإسكندرية، لم تكن تفرقنا حدود سوى ذلك الباب وانقلع، فانكفأت مصر على غزتها تقبل جبينها ووجنتيها، تضمها، تضمد جراحها، وتصرخ من قلبها: “لن نترك غزة وحدها”. فكانت القوافل تتلو القوافل، وعلى رأسها رئيس الوزراء، مبعوثًا من رئيس الجمهورية، يضع للحرب حدا، أنهاها في غضون ثمانية أيام.


كان هذا فوق الأرض، أما تحت الأرض فكانت الأنفاق لا تجد مياها تغمرها ولا قصفا يهدمها، ولا قيادة جيش تسخر نفسها لعدوها فتفخر بهدم 1500 نفق ودق ألف سور وسور يطعن خاصرة غزة، حتى يخنقها، كان السلاح يهرب تحت عين الدولة، وكانت الذخائر تدخل بلا تفلسف، كانت الأمور واضحة، دعم استراتيجي لحائط صد أول عن مصر أولا، وعن قضية عادلة تهم العرب جميعًا، كما تفعل دول أوروبا مع أوكرانيا، لكنهم يحبون البلدان الشقراوات، ولا يقبلون بأن تكون لهم العليّة في مؤازرة أهليهم ووضع أصابعهم في عيون “إسرائيل” ومن خلفها.


وكان المعبر مفتوحًا حتى تكاد تنسى شكل بوابته، كان على مصراعيه كأن لغزة امتدادًا حقيقيًّا في أرض مصر، يذهبون ويعودون، ولا يجدون حرجا، ولا سؤالا، ولا تضييقا، ولا “عرجَنةً” عليهم، تطالبهم بسبعة آلاف دولار للنجاة من الموت، كانت غزة غزة الطبيعية، بلا خذلان، غزة التي كانت يجب أن تبقى كما كانت منذ ذلك الحين، في وضعها الطبيعي، لمدينةٍ مجاورةٍ للشقيقة الكبرى للعرب، مصر التي نعرفها وتعرفها، لا تلك التي يحاولون شطبها من القاموس، وإحلال “مصر” جديدة محلها، في عهد المهزأ الركيك.


وبجوار غزة كان ينادي سوريا، كان يريد خلاصها، “لبيك يا سوريا”، رافعا علم ثورتها، قبل أن يعترف به أحد، حين كان يتبرأ من ثوارها الجميع، كان ينشد هو بنفسه لأهلها وبنيها، وتصعب عليه مشاهد الدماء والأشلاء بأيدي مجرميها، معلنًا رفض وجودهم الطارئ الطفيليّ في بلاد الشام الطاهرة، ومن هنا أيضًا فعلوا بسوريا ما فعلوا، بعدما انهدّ سريعًا حصنٌ كاد يُبنى فتحتمي به من أذرع الطغيان ورأسه وذيوله.


كانت مشكلة تلك القوى الاستهلاكية الاستعمارية مع الدكتور محمد مرسي هو تحول المستورد إلى منتج، تحول مستورد السلاح والدواء والغذاء والحضارة والثقافة والسياسة والاقتصاد إلى دولة تقوم بذاتها دون أن ترهن نفسها لعدوها الذي على الحدود، فكيف ستأمن جانبه إن لم يكن يستورد الغاز منها، وكيف ستأمن جانبه إن لم يكن يعتمد في السلاح على داعميها، وكيف ستجيد اللعب به إن لم تكن مناهج تعليمه مدجنةً على يد الخبراء الغربيين، وكيف ستكون “إسرائيل” باختصار إن كانت مصر؟ لا بد أن تغيب القاهرة لتحضر تل أبيب، ثم حولها أشباه العواصم الطاعنات في ظهور العرب.


ليست مبالغةً أن نتخيل خسارة الأمة برحيل تلك النبتة التي اقتلعوها قبل أن تورق، فتحول ربيع الشعوب إلى خريف بعده، وكان الانقلاب عليه بداية انهيار مشاريع الثورات بإنتاج دول محترمة، وكان بداية الإمعان في حصار غزة وتشديد خناقها، وكان بدايج تغوّل المشروع الإسرائيلي بأذرعه العربية النجسة في المنطقة التي كادت تسترد طهرها على الأيدي المتوضئة، وإن لم تصدقني فتخيل مصر بعد عشر سنوات من 2012، دون انقلاب على إدارتها، ماذا كانت لتكون!

لم يكن ملاكا ولا نبيا، ولا الرجل المعصوم، ولا داهية عصره، وإنما كان شريفا كريما مخلصا صادقا، ثم البقية كانت ستأتي فيما بعد، وليست مشكلتنا الآن أكبر من أنهم استبدلوا بهؤلاء أذلة مهانين كذوبين حمقى، يهتكون عرض بلادهم بأنفسهم، ويبيعون الأرض لكل عابر، مقابل حفنة من قمح، وسرة من ورق أخضر، وبعض المشاكسات في أسرّة العهر السياسي.

إلى الرجل النبيل، أطيب الفرسان، وأشجع الطيبين، الأمة الجريحة تغسّلك بدموعها كل صبح من جديد.

شارك

مقالات ذات صلة