مجتمع

أطفال المخيمات: هل هم مشاريع انتقام أم ضحايا منسيون؟

يونيو 17, 2025

أطفال المخيمات: هل هم مشاريع انتقام أم ضحايا منسيون؟

أسوأ ما يمكن أن تفعله الحروب في الشعوب ليس بالضرورة أن يكون متعلقاً بتدمير البنى التحتية ولا تهجير العائلات، بل زراعة الغضب في عيون الأطفال وتطبيعهم مع البؤس، وتلقينهم أنّ الكرامة لا تأتي إلا بالانتقام.



أكتب اليوم من خيمةٍ قريبة جداً من حدود الوطن المنكوب، في مكان يدعى مخيّماً مؤقتاً منذ أكثر من 10 سنوات، في هذه البقعة الجغرافية حيث لا مدارس حقيقية، ولا حتى حدائق ولا أبواب تُغلق، ولا أسرة تحفظ نوم الطفولة، كبر الأطفال على ما عُرف برماد ما تبقى من الوطن، وشعورٍ حادٍ بأنهم ليسوا من هذا العالم، ومن بين كل التحديات، يبقى سؤالٌ واحد يطاردني كلما نظرت في وجوههم، هل نُربي جيلاً من الضحايا، أم نُهيّئ مستقبلاً من المجرّبين؟


 

بعد سقوط نظام الأسد، تنفّس كثيرون الصعداء، ظناً أن معاناة الشمال السوري ستنتهي، وأن الأطفال الذين وُلدوا في المخيمات سيعودون إلى بيوتٍ حقيقية، ومدارس حقيقية، وأحلامٍ طبيعية، لكن سرعان ما تلاشت الأحلام بواقع كان أكثر قسوة، فالمخيمات بقيت، والخيام لم تُطوَ، والمشاهد التي كانت تُحمّل على وسائل الإعلام بوصفها “كارثة إنسانية” تحوّلت إلى نمط حياة دائم.



هذا المقال، لا يكتفي برصد المأساة، بل يطرح سؤالاً أخلاقياً عميقاً:


من المسؤول عن هذا الجيل؟ وهل الإهمال المستمر وغياب التأهيل النفسي سيحوّل هؤلاء الأطفال إلى قنابل مؤجلة لا يُسمع دويها إلا بعد فوات الأوان؟


بعد سقوط نظام الأسد وانتهاء الحرب رسمياً، كانت التوقعات أن يعود الأطفال إلى بيوتهم، وأن تُطوى صفحات المعاناة التي طال أمدها، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً في مخيمات الشمال السوري، حيث أعيش وأتابع الأحداث يومياً، ما زال الأطفال يقضون أيامهم بين خيام تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، وكأن الزمن قد توقف عند لحظة النزوح.



لقد انتهت الحرب، ولكن الألم لم ينتهِ، الحرب لم تكن فقط على الجبهات، بل استمرت في نفوس الأطفال الذين لم يجدوا بعد مكاناً يحمون فيه أحلامهم المهددة، لم تتحول المخيمات من مكان للعبور إلى منازل دائمة، بل أصبحت سجناً مفتوحاً لجيل لا يعرف الاستقرار، هذا الجيل الذي خرج من تحت أنقاض تهجير نظام الأسد البائد، وجد نفسه محاصراً في دائرة من الفقر، والبطالة، والافتقار إلى الخدمات الأساسية، وأخطر من كل ذلك، اللامبالاة الدولية والمحلية تجاه معاناتهم النفسية.



فغياب برامج التأهيل النفسي الوطني، بعد أن كان من المفترض أن تُعطى الأولوية للأطفال في مرحلة ما بعد الحرب، أخرج الأطفال من مأزق النزوح، لكنه أدخلهم في مأزق داخلي من الخوف والشك والحزن العميق، لتتشكّل في المخيمات طبقة من الأطفال تكبر وسط مخاوف متراكمة، وأحلام مهشمة، وتحولات نفسية لم يُرَ لها علاج، فهم يعيشون في حالة انتظار بلا نهاية، ينتظرون العودة لمدنهم وقراهم المدمرة التي لا تأتي، وتحقيق العدالة في محاسبة مجرمي الحرب الذين قتلوا ذويهم، والحياة التي لم تُستكمل بعد، فهذه مأساة أطفال مخيمات الشمال السوري بعد “التحرير” الحقيقي: أطفالٌ يحملون جراحاً أكثر من دمائهم، وذكريات أكثر من أعمارهم، وأحلاماً أكثر هشاشةً من خيامهم.


 

المستقبل الضائع: أطفال بلا انتماء ولا وطن


عندما ننظر إلى المستقبل الحقيقي لهؤلاء الأطفال، لا يمكننا أن نفصل حاضرهم عن المستقبل الذي يُرسم بفعل واقعٍ مأساوي سيئ، الأطفالٌ الذين ولدوا في المخيم، وتربّوا على قصص النزوح واللجوء، دون أن يعرفوا بلدهم الأصلي إلا من خلال كلام الكبار أو صورٍ بالكاد تملأ صفحات الهاتف المحمول، الوطن بالنسبة لهم هو الخيمة التي تأويهم اليوم، وربما خيمة أخرى في مخيم مجاور غداً، هم لا يعرفون معنى الانتماء إلى أرضٍ أو ثقافة أو مجتمعٍ يستقرون فيه، وهو فقدان لا يستهان به، لأنه يشكل حجر الأساس لشخصيتهم ونظرتهم للعالم.



غالباً ما نسمع عن “جيل الضياع” أو “جيل اللجوء”، لكن في الشمال السوري اليوم، يمكننا القول بصراحة إن هناك جيلاً بأكمله يعيش بين جدران لا حدود لها، يحاول أن يفهم من هو وماذا يريد في ظل غياب مفهوم الوطن، هذا التشظي في الهوية يجعلهم عرضة لانجرافات خطيرة، إما الانغلاق على الذات، أو التمرد على كل ما هو معروف، أو حتى الانخراط في دوامات عنف جديدة تعيد إنتاج المأساة نفسها.

 


يقول العم أبو علي، رجل مسن من مدينة معرة النعمان، مقيم في أحد مخيمات الشمال السوري لموقع سطور: “ابني بلغ الـ15، ولم تطأ قدماه مدرسة قط، كل ما يعرفه عن التعليم مجرد صور يراها على شاشة هاتف قديم، كبر وهو لا يعرف اللعب، ولا حتى طعم الطفولة، لا يسألني عن المستقبل، بل عن الماضي: متى نعود إلى بيتنا؟ وأنا، بكل أسى، لا أملك له جواباً، سقط النظام وانتهت الحرب، لكننا ما زلنا هنا.. كأن شيئاً لم يتغير”.



أما أم خالد، أرملة تعيش مع أطفالها الأربعة في مخيمات أطمة شمال إدلب، فتصف واقعها بصوت متهدج:
“ابني الأكبر بات شاباً، لكنه بلا حلم، بلا دراسة، بلا عمل، كل يوم ينظر حوله في الخيام والفراغ، ويسألني: لماذا لا نملك وطناً نعود إليه، أشعر أن أطفالي يكبرون في الفراغ، بلا هوية وبلا أمل، الحرب انتهت، نعم، ولكن حياة أولادي ما زالت معلّقة بين البرد والجوع والخوف من المجهول”.



ربما ما هو أخطر من الخيام نفسها، ما تزرعه في نفوس أطفالها، حين يتعود الطفل على القليل، على الانتظار، على الصمت، فإنه لا يتوقع من الحياة شيئاً كبيراً، ليصبح “الحرمان” جزءاً من تكوينه، لا عارضاً طارئاً، وحين يرى الطفلُ والده عاجزاً، وأمه مكسورة، والمستقبل مغلقاً، يبدأ بتكوين صورة مهزوزة عن ذاته، لا يرى نفسه قادراً على الحلم، ولا حتى مستحقاً له.



في الشمال السوري اليوم، لم نعد نتحدث فقط عن فقر أو نزوح، بل عن خطر تكوُّن شخصية مشوهة لا تؤمن بذاتها ولا بمن حولها، وهذا الغياب العميق للثقة بالنفس، بالناس، بالوطن، هو ما يجعل أي إصلاح لاحق هشاً وسهل الانهيار، إن أردنا حقاً إعادة إعمار سوريا، فلنبدأ من هناك، من طفلٍ في المخيم، ينتظر أن يقول له أحدهم ببساطة: “أنت مهم، أنت موجود، ومكانك ليس هنا للأبد”.



في النهاية، من ينشئ الإنسان لا يقل أهمية عن المكان الذي ينشأ فيه، وإن لم يُعطَ هؤلاء الأطفال فرصة للاندماج الحقيقي في مجتمعاتهم، فسنجد أنفسنا أمام أزمة اجتماعية وأمنية أكبر في المستقبل القريب، كيف نطالب هؤلاء الأطفال أن يحبوا وطناً لا يعرفونه، أو يبنوا مستقبلاً لا يشعرون بأنه ملك لهم، بينما المخيمات تظل أبدية في حياتهم؟

شارك