مشاركات سوريا

عبد الباسط الساروت.. صدى الحنجرة الذي لا يموت.

يونيو 17, 2025

عبد الباسط الساروت.. صدى الحنجرة الذي لا يموت.

طارق محمد عبد الغفار



“يا سوريا الجميلة السعيدة

كمدفأة في كانون

يا سوريا التعيسة

كعظمة بين أسنان كلب

يا سوريا القاسية

كمشرط في يد جرَّاح

نحن أبناؤك الطيِّبون

الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك

أبداً سنقودك إلى الينابيع

أبداً سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء

ودموعك بشفاهنا اليابسة

أبداً سنشقّ أمامك الدروب

ولن نتركك تضيعين يا سوريا

كأغنية في صحراء.”

-رياض الصالح الحسين.




في زمنٍ صار فيه الشهيد صورةً على الحائط، أو هاشتاغاً في ليلةٍ مزدحمةٍ بالضجيج، يخرج من بينهم من لا يشبه إلا نفسه.

في كلّ ثورةٍ، يكون الدمُ أولَ ما يخرج من البيت، يمشي أمام الناس، يناديهم، ويقودهم، وفي كلّ أرضٍ نازفة، يولد شهيدٌ لا يشبه غيره، شهيدٌ لا يُختصر بجنازةٍ ولا بصورةٍ مرفوعة، بل يظل حياً لأنه لم يمت من فراغ، بل من امتلاء.



الشهداء ليسوا أرقاماً، ولا أبطالاً في ملصقات، إنهم القلق الدائم في ضميرنا، العلامة التي تقول لنا: “كان يمكن لهذا العالم أن يكون أعدل، لو أننا أنصتنا لهؤلاء جيداً”، لا يُقتل الشهيد في لحظة، بل يعيش عمره كله كأنه يموت قليلاً كل يوم، وعبد الباسط الساروت لم يكن من أولئك الذين جاؤوا إلى الموت مصادفة، بل من الذين مشت في عروقهم فكرة الحياة حتى اختارتهم النهاية، كأنها تعرفهم جيداً.

لم يكن الساروت وجهاً عابراً في مشهد الثورة السورية، كان مشهداً كاملاً وحده. الصوت الخام، العاري من الزيف، الذي لا يفلتر ليرضي جمهوراً، ولا يتجمّل ليُقبل في حفلة السياسة.



كان يهتف من صدر المدينة، من وجع الأمهات، ومن أعماق الجرح الذي ظنّه العالم قديماً، ترك حراسة المرمى ليحرس النضال ويدافع عن الحرية، وهل هناك نضالٌ أعظم من أن تقول للجلاد: لن نخاف؟ خرج من ملاعب حمص إلى شوارعها، ومن النداءات في الساحات إلى خنادق القتال، وكان طوال الطريق… يغني.



نعم، يغني، لأن الغناء في وجه الموت فعل مقاومة، ولأن النشيد هو الحصن الذي تمتطيه الجموع حين تتعب أقدامها، لم يكن فناناً، لكن الفن مشى على لسانه كما تمشي النار على الهشيم، غنّى كي لا يسكت الوجع، وكي لا تموت الحكاية في منتصف الطريق.

لم يكن نبياً، لكنه أوتي صدقاً يُربك الطغاة، ولم يكن ملاكاً، لكنه قاتل كما يقاتل من يحمل في جسده كل من استُشهدوا أمامه.. حمل إخوةً وأسماءً ومدناً، حمل حنجرته وجرحه، ومضى.



من منا لم يرَ في عينيه عتباً؟ من لم يشعر أن الساروت يموت أكثر من مرة؟ أن الثورة كلمةٌ خذلها ساستها، فحملها هو على كتفه وهتف بها؟ أنه حين فقد أحبته، لم يصرخ… بل غنّى. ولم يحمل بندقيته خفيفة، بل أثقلها بصوته، وبالبيوت التي غادرها، وبإخوةٍ صاروا أرقاماً في الثرى.. لكنه ظلّ يغني، يغني لا ليُطرب، بل ليحمل الجموع على كتفه، يغني لتقف سوريا من تحت الركام، ليتذكّر الشجر اسمه، لتناديه الجدران التي هُدّمت: “ارجع، غني لنا قليلاً قبل أن نموت”.



كان الساروت آيةً تُتلى بصوتٍ مبحوح، صعد إلى الجبهة كما يصعد العارف إلى محرابه، في زمنٍ تعددت فيه الوجوه، وتبدّلت فيه الرايات، ظلّ هو هو، يمشي على لونه، لا يتلوّن. لا يخطب، لا يبيع، لا يهادن. كان يريد الحياة، لكنه لم يقبلها مكسورة، كان يريد وطناً لا يُساوم فيه القاتل على جثث الضحايا، ولا يصعد فيه الطغاة إلى المنصات بينما ينزل الصادقون إلى القبور.



في جنازته، مشت الأغاني، لا الناس فقط، كان النشيد هو من يشيّعه، وكانت الجموع تعرف أنها لا تودّع رجلاً، بل تودّع صوتاً من ضميرها.

مضى الساروت كما يمضي الذين سبقوه، دون خطبة وداع، دون تمهيد. مضى وفي عينيه شيءٌ يشبه العتاب، وفي جسده صوتٌ لم يكتمل، ولم يترك وراءه وصايا، بل ترك أثراً. وفي زمنٍ صارت فيه الذاكرة مثقوبة، نحتاج أن نعود إليه لا لنرثيه، بل لنتذكّر، أن نستعيد هيئة من يقاتل ويغني، من يحزن ولا ينهار، من يُخذل ولا يخون، أن نعيد الاعتبار لمن ظنّوا أن الثورة كانت جديرة بأن نعيش لها… أو نموت من أجلها.



مضى الساروت، وبقيت أغنيته تفتح الأبواب المُغلقة.

شارك

مقالات ذات صلة