آراء
بدأ جيش الاحتلال الصهيوني قبل فجر يوم الجمعة الماضي هجومًا جويًا هو الأكبر في تاريخ المواجهة بين الكيان المحتل والدولة الإيرانية، مستخدمًا أسلوبه المعتاد لبدء حروبه ضد جيرانه منذ أن تم زرعه على أرضنا العربية المحتلة، محققًا تدميرًا جزئيًا في المنشآت النووية، وكبيرًا للدفاعات الجوية، ومنفذًا عمليات اغتيالات مؤثرة لـ ٢٠ من كبار القيادات العسكرية والعلماء المختصين بالبرنامج النووي، وذلك فقط خلال الضربة الأولى والتي تلتها ضربات جوية متكررة ومستمرة لأهداف أكثر تنوعًا، وعلى مساحة جغرافية أوسع في غرب ووسط إيران، في ظل تأكيدات القادة الصهاينة السياسيين والعسكريين بتصعيد مستوى الهجمات واستمرارها لأي وقت تحتاج إليه لتحقيق أهدافها.
رد الفعل الإيراني الذي تأخر إلى مساء نفس اليوم، ولحين استيعاب الضربة الأولى، جاء باستخدام موجة من الصواريخ الباليستية بلغت حوالي ٢٠٠ صاروخ وصل بعضها إلى الأرض مستهدفةً مناطق متعددة في عمق الكيان المحتل، لتصيب عددًا من الأهداف غير الاستراتيجية، وتلحق بعض الخسائر غير الكبيرة ولا النوعية، بينما هددت إيران باستمرار وتصاعد هذه الهجمات الصاروخية، وبالفعل نفذت خلال الليلة الثانية من هذه المواجهة هجومًا أوسع باستخدام أعداد أكبر من الصواريخ والطائرات المسيرة والتي ألحقت بالعدو خسائر أشد، كما عززت من الواقع الذي يجد الاحتلال نفسه بمواجهته، لأول مرة في حربه مع دولة وجيش نظامي، غير قادر على حماية جبهته الداخلية المستباحة، لتسقط نظرية الأمن التي كان يضمن بموجبها الكيان لمستوطنيه نقل المعارك إلى أرض من يحاربه.
ومع التأكيد على النقلة النوعية التي تمثلها تلك المواجهة العسكرية الدائرة الآن على مستقبل المنطقة بصفة عامة وبعض دولها على وجه الخصوص، يمكن القول أن الكيان المحتل دفع بأسلوب وكثافة ونوعية الأهداف التي بدأ بها المواجهة باتجاه الحرب المفتوحة، بمعنى أنه حاول تكسير القدرات النووية الإيرانية وتأخير برنامجها النووي خطوات كثيرة للوراء، وتدمير برنامج الصواريخ المتطورة وبعيدة المدى التي تمثل عنصر التفوق الإيراني عسكريًا في مواجهة الترسانة العسكرية لجيش الاحتلال، بل إن الأمر قد وصل إلى الإعلان المباشر من رئيس وزراء الاحتلال عن الرغبة في إسقاط النظام الإيراني، وحتى دعوة الشعب لإنتاج نظام حليف للكيان المحتل على خطى نظام الشاه الذي كان يحكم إيران قبل أن تسقطه الثورة في فبراير عام ١٩٧٩.
العنوان الرئيسي لطبيعة وحجم الرد الإيراني -حتى كتابة هذا المقال- أنها قد اختارت الالتزام بقواعد للاشتباك لا تدفع بالمواجهة إلى الحرب الشاملة طويلة المدى، فلم تنفذ تهديداتها السابقة، التي أطلقتها فيما يبدو على أمل الردع وتجنب هذه المعركة، باستهداف المصالح الأمريكية في المنطقة، حتى أنها لم تستخدم قواتها البحرية التي تعد أحد نقاط قوتها ولو لإغلاق مضيق هرمز. وقد اختارت إيران بذلك ألا تبدأ بتوريط أمريكا بالمشاركة الفعلية في الضربات الموجهة إليها، وأن تكتفي بدعم الكيان المحتل وكذلك المشاركة المباشرة في الدفاع عنه، وهي بذلك تحاول أيضًا ألا تقطع الطريق أمام توقف القتال قريبًا والوصول إلى تسوية، من خلال وسطاء بدأ بعضهم يطرح نفسه بالفعل، علها تتجنب الدمار الواسع، وتكسب مزيدًا من الوقت الذي تسعى من خلاله لامتلاك سلاح الردع الذي دفعت في سبيله وعلى مدار سنوات طويلة ثمنًا كبيرًا جدًا، وذلك لإدراكها بأن الوصول لهذا الهدف سوف يصنع معادلة جديدة تغير موازين القوى وتفرض قواعد جديدة في العلاقات الدولية على مستوى الإقليم وأمام القوى الدولية الكبرى بوجه عام، وبمواجهة الكيان المحتل ومن ورائه أمريكا على وجه الخصوص.
وليس صعبًا توقع محاولة الكيان المحتل بأساليب متعددة خلال الأيام القادمة توريط أمريكا في العدوان بشكل مباشر ليس فقط لأنها تملك القنابل التي يحتاج إليها الكيان المحتل -ولا يملكها- لتدمير المنشأت النووية الإيرانية الموجودة على أعماق بعيدة تحت الأرض، ولكن أيضًا لعدم تحمل هذا الكيان مواجهة عسكرية طويلة مع دولة تستطيع الوصول بصواريخها إلى جميع مستوطناته، ووضع الكيان ومستوطنيه في حالة استنفار وتهديد مستمر لفترات طويلة، كما لا يخفى أن طول أمد المواجهة العسكرية سوف يكون له تداعيات يدفع ثمنها العديد من دول المنطقة، كما يمكن أن تتطور المواجهة إلى استهداف مناطق ومصالح ومنشأت يمتد تأثيرها إلى القوى الدولية وإلى الاقتصاد العالمي.
وإذا لم يكن دقيقًا في هذه اللحظة ترجيح أي من السيناريوهات المطروحة، والتي يمكن أن تسلكها تلك المعارك العسكرية المحتدمة، فإنها تتراوح ما بين درجات المواجهة الحربية الأكبر في ظل قواعد للاشتباك يلتزم بها الطرفين حتى وإن لم يكن بينهما اتفاق، وما بين الحرب المفتوحة طويلة المدى والتي تتحول إلى صراع إقليمي تتداخل وتشارك فيه أطراف دولية.
إن الشعور العام للشعب المصري والأمة العربية، وحتى المواقف الرسمية لرفض العدوان الإسرائيلي الذي ينتهك القانون الدولي ويعتدي على سيادة الدول، إنما يؤكد بوضوح الوعي الجمعي بأن الخطر الحقيقي يأتي من عدونا الذي يستمر في العربدة بالمنطقة، وارتكاب جرائمه التي يتقدمها جريمة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني البطل في قطاع غزة، تلك الجرائم التي تكشف بوضوح تام الوجه القبيح لهذا المشروع الاستيطاني الاستعماري، وهدفه الاستراتيجي المتمثل بتدمير كل قوة يمكن أن تقف في وجه خطته للهيمنة على كامل المنطقة، وفرض سطوته بتركيع دولها وشعوبها، وهي الأخطار الوجودية التي يتحتم علينا مواجهتها، ودعم كل من يواجهها، حتى لو كان بيننا وبين بعضهم بعض الاختلافات أو حتى التناقضات.