سياسة

الثمن الباهظ للسلم الأهلي

يونيو 14, 2025

الثمن الباهظ للسلم الأهلي

أثار الحديث عن “السلم الأهلي” احتقاناً شعبياً واسعاً في الفترة الأخيرة، لا سيما بعد إطلاق سراح عشرات من الضباط السابقين في صفوف النظام، وتصدر شخصيات مثل سقراط الرحية وفادي صقر على اعتبارها ضامناً للسلم الأهلي عقب الأحداث الطائفية التي شهدتها منطقة الساحل.



مع هذه الإجراءات، ظهر السلم الأهلي كأنه مفهوم يتعارض مع العدالة الانتقالية، وينفي بالضرورة أحد أبرز أركانها، ألا وهو “المحاسبة”. وفي بلد مدمر أنهكته الحرب، وأتخمه الموت، بدا أن علينا اختيار أحلى المرين، إما النسيان والمضي قدماً لبناء دولة جديدة وإن كان الثمن خيانة ذكرى ضحايانا، وإما الإصرار على تحقيق العدالة، وإن كان الثمن مزيداً من الموت والدمار.


 

“لا نستطيع سجن أمة بأكملها”


 لا ننكر وجود العديد من العوامل التي تعرقل تطبيق العدالة المبتغاة في هذه الفترة الحساسة من تاريخ سوريا، حيث يتوجب على الدولة إنصاف الضحايا من جهة، مع الحول دون إشعال حرب أهلية من جهة أخرى.


 

عام 1994، وخلال 100 يوم فقط، حصد متطرفون من الهوتو أرواح ما يزيد عن 800 ألف شخص من أقلية التوتسي في رواندا، إضافة إلى بعض المعتدلين من الهوتو أنفسهم. وبعد أن تمكنت المعارضة المسلحة التوتسية، من إسقاط حكومة المتطرفين وبسط السيطرة على البلاد، برزت معضلة أخلاقية تتمثل بالاختيار ما بين التنازل عن حق الضحايا لتحقيق الاستقرار، أو إنصافهم جميعاً بمحاكمة مئات آلاف الجناة. بول كاغامي، قائد الجبهة الوطنية آنذاك، فضل ترجيح كفة “المستقبل” على كفة “العدالة” وفق تعبيره، ورغم إدراكه أن قراره يشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل الناجين، إلا أنه برره بقوله: “لا نستطيع سجن أمة بأكملها”.



في السياق السوري، تورط عدد لا يمكن إحصاءه من الأفراد في انتهاكات مختلفة.. ضلع في أعمال القتل والتدمير والاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب والتهجير، القيادات العليا التي هندست سياسات القمع الممنهجة، والضباط الذين أشرفوا على تنفيذ هذه العمليات، والعناصر الذين قاموا بالتنفيذ مباشرة.



إلى جانب هؤلاء، لا نستطيع كذلك إحصاء أعداد المتورطين في عمليات سرقة الممتلكات وتعفيش البيوت، ولا أعداد المخبرين الذين تسببوا في تغييب مئات الآلاف في السجون، ولا أعداد المدنيين الذين انضموا للجان الشعبية ومارسوا التشبيح بمختلف أشكاله ضد المواطنين، ولا أعداد الإداريين في كافة مؤسسات الدولة الذين شاركوا بانتهاكات جسيمة مثل خطف أبناء المعتقلين، أو ابتزاز عائلات المعارضين وغير ذلك من الجرائم. 



هذه الأعداد الهائلة، والانتهاكات متعددة الطبقات تقف عائقاً أمام تحقيق العدالة التي نحلم بها.. بالفعل “لا نستطيع سجن أمة بأكملها”.

بالإضافة إلى ذلك، ما تزال التوترات الأمنية قائمة في مناطق عديدة أبرزها شمال شرق سوريا والساحل والسويداء، وهناك دول خارجية تحاول الاستثمار بملف “حماية الأقليات” وعلى استعداد لاستغلال أي شرارة قد تشعل حرباً طائفية في البلاد. في هذا الإطار قد يشكل التصعيد الذي تولده المحاسبة، تهديداً للسلم الأهلي وبداية لنزاع جديد لا تحمد عواقبه. لكن هل يعني ذلك بالضرورة أنه يتوجب علينا أن نرش ملحاً على جراحنا ونهادن الجناة؟


 

هل نرش ملحاً على جراحنا؟


رغم عدم إمكانية محاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات في البلاد، إلا أن التغاضي عن جرائمهم لا يعزز السلم الأهلي بل يشكل تهديداً مباشراً له، ولا يمنح البلاد سوى استقراراً هشاً قد يتداعى في أي لحظة.



لتحقيق استقرار متين، لا بد من اتباع مسار عدالة انتقالية يضمن محاسبة القيادات العليا المسؤولة عن الجرائم الجسيمة، ولا يمنح تسويات مجانية لبقية الجناة. العفو العام عن مرتكبي الجرائم يجب أن يكون مشروطاً باعتراف صريح وإقرار بالجرائم المرتكبة، واعتذار علني من الضحايا وذويهم، ومشاركة في تقديم التعويضات لهم. تلك الإجراءات لن تداوي جراح الضحايا لكنها تحقق لهم شكلاً رمزياً من أشكال العدالة.



وفي حين يشكل السلم الأهلي ضرورة قصوى لتخفيض التصعيد في مناطق تسودها التوترات الطائفية مثل منطقة الساحل، إلا أن ذلك لا يعني الإفراج “غير المشروط” عن الجناة لمجرد أنهم أبناء تلك المناطق. عندما وصف عضو اللجنة العليا للسلم الأهلي حسن صوفان هذا الإجراء بكونه جاء “استجابة لمطالب أهالي الضباط” في صفوف النظام السابق، بدا الأمر وكأنه استهتار بمعاناة أهالي الضحايا الذين عانوا على مدار 14 عاماً من هذا النظام، واستهتار كذلك بمعاناة أهالي الضحايا الذين قتلوا خلال أحداث الساحل ولم تعالج مظالمهم حتى الآن.


 

عدا عن ذلك، فإن تعويم شخصيات مثل فادي صقر، القيادي السابق في الدفاع الوطني، يزيد في الواقع من الحساسيات الطائفية. إذ يقدم عراب مجزرة التضامن نفسه على أنه “علوي” لديه “مصداقية لإقناع أنصار النظام السابق بعدم الابتعاد عن الحكومة الجديدة” حسب تعبيره، كما يصور نفسه على أنه الجسر الوحيد الذي أن يربط منطقة الساحل بباقي الجغرافيا السورية، وقد قالها بكل وقاحة في حديث له مع نيويورك تايمز “اسمي بات اختباراً لمدى إمكانية التعايش بين طرفي الصراع في سوريا”.



هذه التصريحات تصنف أبناء الساحل على أنهم الطرف الأول في الصراع، في حين يشكل باقي الشعب السوري الطرف الآخر، الأمر الذي يساهم في وصم أبناء المنطقة بأكملها على أنهم شركاء في جرائم النظام السابق، وهو أمر عار عن الصحة ، ويزيد من هذه الوصمة تصدر مجرم حرب مثل فادي صقر ليتحدث بالنيابة عن أهالي الساحل ويكون وسيطاً بينهم وبين الحكومة، رغم وجود العديد من الشخصيات العلوية الوطنية التي تستطيع الاضطلاع بهذه المهمة.



هذا التعويم لن يساهم فقط في زيادة التوتر الطائفي بل يشكل أيضاً تهديداً للسلم الأهلي مع وجود مجرمين خطيرين لا يعيشون بيننا فحسب بل يتولون كذلك مناصب قيادية في المجتمع المدني تتيح لهم التعالي على الضحايا والاستهزاء بجراحهم. وعلى المدى الطويل قد يعود هؤلاء لتصدر المشهد السياسي ومراكز صنع القرار كما حدث في لبنان عقب الحرب الأهلية، وكما حدث في رواندا كذلك التي انتهى بها المطاف محكومة بنظام سلطوي يرأسه كاغامي على مدار الـ25 عاماً الماضية. 


 

من المفهوم إعطاء الأمان لشخصيات مثل فادي صقر، كونهم ساهموا وفقاً لمسؤولين حكوميين في حقن الدماء وتيسير عملية ردع العدوان بأقل الخسائر، لكن من غير المفهوم وغير المقبول تلميع هذه الشخصيات لتكون رمزاً للتعايش الاجتماعي وضامناً للسلم الأهلي. الحكومة اليوم مطالبة بتحييد هذه الشخصيات ومنعها من الظهور العام ومطالبتها بتقديم الاعتراف والاعتذار العلني كشرط أساسي لمنحها العفو الذي يجب أن يتم ضمن إطار مسار العدالة الانتقالية، والتي سيؤدي غيابها إلى تجذير مظلوميات الضحايا وزيادة الاحتقان الطائفي والغضب الشعبي وانتشار حالات الانتقام الفردي.


 

ندرك صعوبة إجراء موازنات ما بين إنصاف الضحايا وترسيخ الاستقرار، ندرك عدم إمكانية تحقيق عدالة ترضي الجميع، نحاول ضبط توقعاتنا، ونعلم أن “الغفران” هو الثمن الباهظ للسلم الأهلي، لكننا لا نستطيع أن نمحو ذاكرتنا، ولن نقوى على النسيان.

شارك

مقالات ذات صلة