سياسة
بعد عقود من الانغلاق الفقهي وتقييد التنوع الديني في سوريا، عاد النقاش حول المذاهب الإسلامية إلى الواجهة. لكن هذا الجدل لم يكن نظرياً فقط، بل حمل خلفه توترات مجتمعية وسياسية، تتقاطع مع تاريخ من الصراعات العقائدية.
فمع احتكاك القوى السلفية القادمة من شمال سوريا بالمنظومة الدينية الراسخة في المدن السورية الكبرى، لا سيما حلب وحماة ودمشق، وفي حضرة صراع صوفي سلفي في المساجد وعلى المساجد، تحول في بعض الأحيان إلى اشتباكات وعراكات بين مؤيدي التوجهين على المستوى الشعبي العامي، فيما جرى حديث آخر عن عزل مئات الأئمة وخطباء مساجد صوفيين وأشاعرة في هذه المدن على المستوى الرسمي.
وكان لافتاً ترقب السوريين لتعيينات مجلس الإفتاء ومفتي الجمهورية الذي جاء مطابقاً لرغبة جزء لا يستهان به من السوريين، كون المفتي ينتمي لمدرسة فقهية يقول أتباعها إنهم مادة أهل السنة وعمادها في بلاد الشام أي الأشاعرة، وفيما عدا مدينة دوما بريف دمشق، فإن مدرسة الحنابلة تكاد تكون غير موجودة في سوريا، حيث ينتشر المذهب الحنبلي في مجتمع هذه المدينة فقط، لتشكل دوما الاستثناء الحنبلي الوحيد في سوريا الأشعرية.
السياق الذي نشأ فيه ابن حنبل، ربما يفسر بروز الإمام وبروز محنته الشهيرة، محنة خلق القرآن وصراعه مع المعتزلة، لتكون تأسيسية في واقع الإسلام السني الحالي، فالإمام الممتَحن عاصر نهاية عصر الأقوياء من خلفاء الدولة العباسية، وبالذات أقواهم وأدهاهم المأمون الذي كان يبحث عن عقيدة تنقذ العباسيين من محنتهم السياسية، فدولتهم التي بقيت طوال فترة التأسيس والقوة تتأرجح بين التشيع باعتبار أنها دولة الهاشميين ككل، ومسايرة جمهور المسلمين وفقهائهم ودعم المعتزلة في مذهبهم العقلي وفرضه عقيدة رسمية للدولة وإجبار كبار الفقهاء على اعتناقه في عهد المأمون.
الخليفة الاستثنائي الذي وُصف لاحقاً بالمستنير كان في سعي حثيث لإيجاد شرعية له، في وقت كانت تتعرض فيه دولته ودولة أسلافه للمحن والخطوب المستمرة، برز ابن حنبل في فترة مات فيها الرشيد وتصارع أبناؤه على الخلافة، مقتل الخليفة الأمين كان إيذاناً بعهد الضعف، ففي حدث مفصلي تم التجرؤ فيه على مقام الخليفة نفسه في الدولة العباسية، ليكون رابع خليفة يُقتل في الإسلام، وإذا كان مقتل الخليفة عثمان فتح باب الفتنة الكبرى في عهد الخلفاء الراشدين ومقتل الوليد الثاني مهد لانهيار دولة بني أمية، فقد كان مقتل الخليفة العباسي عربي الأب والأم في عاصمته على يد طاهر بن الحسين القائد الفارسي، باعثاً على صحوة قومية عنصرية عربية في الدولة والمجتمع وصلت ذروتها في عهد المتوكل الذي عزز مفهوم أهل السنة والجماعة، وكان مؤيداً لابن حنبل في صراعه مع المعتزلة وحسم الخلاف لصالحه وأكرم الإمام في أيامه الأخيرة، خلافاً للمعتصم والمأمون اللذين دعما المعتزلة بكل وسائل الدعم وجعلاهم في المناصب العليا في الدولة.
لا شك أن ابن حنبل الشيباني العربي أيضاً كان متأثراً في هذا الجو السياسي العام، وكانت محنته التي استمرت لسنوات احتجاجاً مركباً على السلطة، على سلطة المأمون أولاً، وقومياً ضد هيمنة الفرس في عهده، وضد المعتزلة الذين كانوا يعدون في ذاك الوقت “متنوري السلطة”، والمدعومين من النخبة الفارسية في الدولة كذلك، لكنه لم يكن ضد سلطة الخلافة العباسية بحد ذاتها رغم التجاوزات غير المحتملة في نظره بدعم المأمون لفلاسفة المعتزلة.
على خلاف أبي حنيفة النعمان الذي ناصر زيد بن علي في ثورته على الأمويين، وكان يواجه السلطة ويريد إسقاطها بشتى الوسائل، ورغم أنه يسمى بالإمام الأعظم ويعد قبره في بغداد من معالم المذهب السني البارزة، كانت أصوله الفارسية عامل افتراق آخر مع ابن حنبل، أما سفيان الثوري الذي عاش طريداً ومطلوباً للمنصور كانت السلطة العباسية في نظره مُناظرة للظلم والتعسف السياسي، كذلك كان الشافعي والشعبي وابن مالك معارضين للسلطة بكليتها وقد تعرضوا للملاحقة والأذى من هذه السلطة، ولم يكن موضوع العقيدة هو سبب النزاع معها بل كانت ممارسات السلطة اليومية ومظالمها الاجتماعية هي الباعث لشراره.
فيما اتخذت معارضة ابن حنبل نخبة الدولة من فلاسفة المعتزلة في عهد المأمون بما تحمله من أفكار عقلانية وفلسفية معارضة لمدرسة النقل، وبما أن المسائل الخلافية بين المعتزلة وفرقة الإمام كانت فكرية وفلسفية تكمن في الحقيقة في بواطن الكتب، وفي حلقات المناظرات العقدية التي لا تمس حياة الناس بشكل مباشر، ولم تكن شديدة الأثر على الحياة العامة كمواضيع شرعية الخلافة أو توزيع الثروات في الدولة أو الظلم الاجتماعي في بعض جوانب الحياة في تلك المرحلة العباسية.
لكن في واقع الأمر، فإن “محنة خلق القرآن” كانت أداة سياسية ذكية بيد المأمون لإغراق المجتمع في جدليات فلسفية بديلة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالسلطة، والعدالة، والثروة وتشتيت الانتباه عن صراعات الخلافة والفتن الداخلية وقضية مقتل أخيه وشرعية حكمه.
الغريب أن الحسم العقدي الذي جاء به المتوكل لصالح أهل السنة والجماعة، تزامن مع بداية الانهيار السياسي للدولة، وانتقال السلطة بعد موته إلى أيدي الأتراك بشكل كلي. بعد أن جلبهم المعتصم واعتمد عليهم، خوفاً من تغير هوى الفرس في العائلة الحاكمة وولائهم للطالبيين.
لم يواجه ابن حنبل السلطة القائمة بل واجه “بدع المعتزلة”، ولم يُذكر عنه أنه عارض الخلافة العباسية أو سعى في انتقادها، كما أُثر عنه أنه قال عن يزيد ابن معاوية “إننا لا نحبه ولا نلعنه” في قبول للسلطة كما هي حتى مع ما يمكن أن تحمله من عسف وظلم أو حتى مع الاعتراض الذاتي عليها، فإن طاعتها تبقى واجبة، وهو ما دلل عليه بتعرضه للتعذيب والسجن والتنكيل ولم يخرج عليها، وبقي خيط رفيع يصله بها.
لاحقاً سوف تظهر نسخة عباسية أخرى من المتوكل، وهو القادر بأمر الله الذي كان في عصر ضعف هيمن فيه الأمراء البويهيين الشيعة على السلطة السياسية في العراق وفارس، وسيلجأ القادر إلى إصدار الاعتقاد القادري لتوحيد المذهب السني، مؤكداً على مكانة سلطة الخلافة العباسية حتى في ضعفها أمام الهيمنة البويهية، والغريب أن ذلك فتح الباب مجدداً لصعود السلاجقة الأتراك إلى القيادة السياسية للخلافة، خلفاً للبويهيين بعد ذلك بفترة غير بعيدة.
إن محنة خلق القرآن التي ارتبطت بابن حنبل أثرت في نفسية رجال الدين المسلمين بعده وعلى المعاصرين منهم بالذات، إذ تمنى كثر منهم لو أنهم عايشوا ذات ظروف المحنة أو ما يتمثلها نفسياً، بحيث يكونون المنافحين عن الدين بوجه البدع والمبتدعين، وهو ما خلق جيلاً يؤمن بصحة اعتقاده ورأيه بشكل مطلق، ويعتبر المختلف مبتدعاً أو ضالاً أو حتى كافر.
إن الأشاعرة هم من تصدوا للمعتزلة وهم من أنهوا مدرسة العقل لصالح مدرسة النقل، وهم الذين عززوا المذهب السني وكانت عقيدتهم هي العقيدة المهيمنة في تاريخ سوريا والعراق، رغم ذلك يبدون اليوم مكشوفين أمام المدرسة السلفية الحنبلية في محنة عقائدية جديدة، كانت نائمة في بواطن الكتب ثم استفاقت في مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً على منصة يوتيوب، من خلال جدالات لا تنتهي حول صفات الله المادة الأثيرة لكيل الاتهامات بالكفر للمدرسة المقابلة، ثم تكثفت وظهرت للعيان في الشارع السوري بعد سقوط نظام الأسد، ليكون ميدانها الجديد هو ساحات المساجد ووزارة الأوقاف.
قد يكون مغرياً للسلطة الجديدة في دمشق، الدخول في معمعة الصراع الفقهي الحالي كطرف لاعب ومشارك يسعى لضبط إيقاع المشهد المذهبي داخل البيت السني بما يخدم تطلعها لحكم مستقر ومستدام، وربما يكون ذلك الدخول في هذه اللعبة بالنسبة لهذه السلطة حتمياً، فخلفيتها السلفية وجمهورها السني الأشعري يقلص فرص نأيها عن هذا الصراع وتجنبها له، فمن تجارب النظام البائد ذو التجربة المديدة في حكم سوريا، والذي رغم أنه كان يبدو منفصلاً عن المجتمع إلا أنه كان منخرطاً بشدة في الشأن الديني والفقهي، دلالة على حساسية هذا الملف بالنسبة له وبالنسبة للمجتمع الذي يحكمه، ولكن لا يمنعنا ذلك من الاعتقاد بكونها لعبة محفوفة بالنار.