سياسة

حجم الحكومة في مرحلة التأسيس: بين طموحات السوريين ونماذج عالمية (أمريكا، سنغافورا)

يونيو 12, 2025

حجم الحكومة في مرحلة التأسيس: بين طموحات السوريين ونماذج عالمية (أمريكا، سنغافورا)

سبق الإعلان عن أول حكومة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد٬ تصريحات من المسؤولين الجدد عن عهد مختلف يعتمد علاقات سلام مع الدول وانفتاحاً على العالم٬ وكان أبرز ما قيل وتكرر هو الحديث عن نية اتباع نظام اقتصادي مختلف يعتمد على السوق الحر طريقاً للتنمية في سوريا الحديثة.

 

 

 

حكومة كبيرة أم جهاز بيروقراطي مكرر؟

 

ظهر إعلان تشكيل الحكومة السورية مفرجاً عن عناوين 23 وزارة، وهو وإن شمل مناحي حياتية عدة إلا أنه عدد كبير نسبياً إذا ما قورن مع أول حكومة أمريكية على سبيل المثال فنجد أن الحكومة السورية تزيدها 6 مرات٬ حيث اقتصرت الولايات المتحدة عند التأسيس على 4 وزارات رئيسة، وهو رقم مختصر ينسجم مع متطلبات اقتصاد السوق الحر الذي يعول على المبادرات الفردية والمجتمعية٬ ويدع رأس المال المحلي والعالمي يساهم بطريقته في الاقتصاد الوطني.. 

 

 

دافع بعض مناصري الحكومة السورية عن هذا العدد الكبير من الوزارات٬ باعتباره ضرورة مرحلية للدولة لتثبيت أقدامها في المرحلة الأولى بشكل راسخ وقوي٬ قبل أن تترك المجال واسعاً لتحركات الأفراد، وهو رد انفعالي يتعاطف بطريقة متسرعة مع سلوكيات السلطة، لأن الرسوخ والتثبيت يأتي من خلق حالة حرة واقتصاد يشارك فيه الجميع٬ لتقتصر مهمة السلطة على تثبيت الأمن٬ من خلال وزارة أو اثنتين. 

 

 

دافع آخرون عن عدم اعتماد حجم صغير للحكومة على غرار أمريكا بأن الأخيرة تمتلك نموذجاً خاصاً يحتوي إدارة مركزية وإدارات فرعية، وهذا يقلل من اعتمادها على الوزارات. 

 

 

هذه الردود غير دقيقة، وجاءت مدفوعة بعاطفة شعبية ظهرت مباشرة بعد نجاح الثورة، وهي تأبى توجيه أي انتقاد للحكم الجديد وتخاف من ضياع النجاح المكتسب. 

 

 

ليس صحيحاً بالطبع أن الدول الناشئة تحتاج جهازاً بيروقراطياً واسعاً٬ بل العكس هو الصحيح٬ وإن كان ثمة خصوصية مفترضة للولايات المتحدة٬ فسنمرر في هذا المقال نموذجاً آخر تكرر ذكره في الآونة الأخيرة٬ وهو تجربة سنغافورا٬ بعد عرض التجربة الأمريكية التي تشترك مع النمط الجديد المعلن عنه في سوريا٬ بنقطة أساسية٬ وهي اعتماد سياسة السوق الحر (الليبرالية الاقتصادية)..

 

 

أمريكا: حكومة صغيرة، دستور مرن، واقتصاد كبير

 

تأسست أمريكا بعدد قليل من الولايات بعد حرب استقلال طاحنة٬ حيث شعرت المستعمرات البريطانية المنتشرة على طول الساحل الشرقي بحالتها الوطنية الخاصة وتمايزها عن الوطن الأم، خاصة وقد بدأت بريطانيا بتطبيق ضرائب عالية ومجحفة على كثير من السلع الأساسية٬ وشددت صلاحيات مندوبيها في المستعمرات بما بدا مصادرة لحريات السكان المهاجرين وتضييقاً مقصوداً عليهم. 

بدأت الحرب في ذروة من ذروات المواجهة بعد أن وصل الغليان إلى نقطة اللاعودة، واستمرت 8 أعوام استعانت فيها الولايات المتحدة بدول أخرى لتضمن الفوز، وانتهت أخيراً بمعاهدة أنهت الحالة الاستعمارية بشكل كامل. 

 

 

وجدت المستعمرات السابقة نفسها مستقلة وبحاجة إلى تكريس وترجمة للحالة الوطنية الواعية٬ فظهر ذلك على شكل دستور جمع الولايات التي كان عددها 13 آنذاك. كان الدستور محلياً بدرجة كبيرة وعكس حالة اقتصادية واجتماعية وفلسفية، تشكلت بعد عقود من الحياة داخل المستعمرات خلال حقبة التبعية للتاج البريطاني، فخرج الدستور الأمريكي ليدعم الوضعية السياسية الجديدة، وقد وعى كتّاب الدستور إمكانية توسع الولايات٬ وهو ما تم لاحقاً بالشراء المباشر أو الاستيطان، حتى اكتمل عقد الولايات الخمسين.

 

 

أدرك مشرعو الدستور الأمريكي أن مهمته الأساسية تحديد العلاقة بين السلطة والشعب٬ فقسموا السلطات إلى 3 أقسام: القسم الأول هو القسم المنتِج للقوانين وهو السلطة التشريعية التي تقوم بإقرار القانون وإمضائه ليصبح قابلاً للنفاذ٬ وُوضعت هذه السلطة بيد الكونغرس (مجلس الشعب)، أما السلطة الثانية فكانت سلطة إدارة هذه القوانين وأنيطت بالرئيس أو ما يُعرف بالسلطة التنفيذية، والسلطة الثالثة التي تفسر تلك القوانين وتطبقها وهي السلطة القضائية.

 

 

تأسس بموجب هذا الدستور الكونغرس، والمحاكم على أنواعها، وجرى انتخاب أول رئيس للولايات المتحدة كسلطة تنفيذية، والذي عيّن بدوره مجموعة من الوزارات العاملة تحت إدارته مباشرة٬ ليؤدي الدور الذي حُدد له في الدستور لإدارة البلاد. لم يكن المؤسسون مهووسين بفكرة تحديد وزارات كثيرة في البداية٬ فتشكلت الحكومة في الولايات المتحدة من 4 وزارات فقط.

 

 

ويُظهر هذا الشكل المختصر للحكومة مقدار الحيز الكبير المعطى للمجتمع لإدارة نفسه بالطريقة التي يجدها مناسبة٬ وقد اكتفت السلطة التنفيذية بعقد المعاهدات الخارجية وإدارة الشؤون السياسية للدولة عبر وزارة الخارجية، أما وزارة الخزانة فقد كانت تجمع الضرائب (التي كانت بحدها الأدنى)٬ وتصدر العملة٬ وتقر الجمارك على بعض البضائع الخاصة التي لا تقع ضمن حاجات المواطنين الرئيسية، وأكدت على استقرار الحالة الاقتصادية للولايات كلها، أما وزارة الحرب فأشرفت على الجيش الوطني ومليشياته الملحقة، وقادت الحرب الداخلية مع السكان الأصليين، وأدارت البريد لوصل الولايات وإبقاء اللحمة قائمة بينها جميعاً٬ وكانت تابعة لوزارة الخزانة لكن نظرا لأهميتها الكبيرة انفصلت وأصبحت قائمة بذاتها.

 

 

كان الجهاز الإداري للحكومة كلها مختصراً ومكثفاً٬ بحيث لم يتجاوز العدد الإجمالي للحكومة ألف شخص، واقتصرت الوظائف الحكومية الفدرالية على الاحتياجات الرئيسية، كوظائف الدبلوماسيين، وموظفي البريد وجباته التابعين للمالية٬ والمسؤولين العسكريين. 

 

 

لم ترصد الميزانيات الكبيرة للحكومة فاقتصرت أوجه الصرف على حدود قليلة جداً، ولم تتجاوز أيضاً في جباية الضرائب والرسوم الجمركية٬ وتُركت قطاعات كبيرة وواسعة جداً خارج نطاق اهتمامات هذه الحكومة كالخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم.

 

 

في بداية هذا العام 2025 تسلم رئيس جديد للولايات المتحدة منصبه وكان يحمل الرقم 47، وما زال الدستور الأمريكي الذي كُتب عشية إعلان الاستقلال سارياً حتى الآن٬ بعد أن أُدخل عليه 27 تعديلاً فقط٬ كان آخرها عام 1992، توسعت الولايات المتحدة من 23 ولاية إلى 50 ولاية٬ وكان إقليم هاواي آخر ولاية دخلت في الاتحاد عام 1959، وما زال الباب مفتوحاً أمام دخول ولايات جديدة، ودعا ترامب كندا للدخول في هذا الاتحاد لتكون الولاية 51، ولكن يبدو أن الحالة الوطنية الكندية كانت أقوى من تلك الدعوة.

 

 

ما زال الدستور يرتكز على 3 سلطات تقوم بالتشريع والإدارة والتطبيق، ولكن توسع الولايات أعطى مجالا للحكومة الاتحادية للنمو فضمت الحكومة مع الرئيس السابع والأربعين 15 وزيراً٬ لمعاونته في إدارة قوانين الولايات مجتمعة.

 

 

من المفهوم اختفاء وزارة البريد التي كانت أساسية في الحكومة الأولى لأن أساليب التواصل أصبحت أكثر سرعة ولم تعد بحاجة لكادر بيروقراطي ليقوم بها٬ فتخلت عنها الحكومة الاتحادية نهائياً، ولكنها أبقت على الخارجية والخزانة والحرب، دون إدخال تعديلات أساسية على عملها مع استيعاب الحجم الكبير لموظفي كل وزارة نظراً للدور العالمي الذي أصبحت عليه الحكومة الأمريكية٬ فهي تدير عمليات سياسة ضخمة خلف الحدود بالإضافة إلى وظائفها المالية والدفاعية الكبيرة والتي تجاوزت حدود الجمهورية والقارة الأمريكية كلها.

 

 

كانت وزارة الأمن آخر وزارة تدخل ضمن الهيكل الحكومي فبدت الحاجة الأمنية ماسة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 والحاجة إلى تنسيق عمل وكالات الأمن الأمريكية المتعددة، ودخلت وزارة العدل والداخلية والزراعة والتجارة والعمل والطاقة والصحة٬ والتعليم (التي يجادل الرئيس ترامب اليوم لإلغائها)، ووزارة الإسكان وشؤون المحاربين القدماء، بالإضافة إلى بضع وكالات مهنية ملحقة بالعمل الفدرالي كوكالة ناسا الفضائية وحماية البيئة، ووكالة المخابرات العامة، فارتفع عدد موظفي القطاع العام من ألف في الحكومة الأولى إلى ما يقارب 3 ملايين في حكومة ترامب، كما ارتفعت الميزانيات من بضعة ملايين إلى آلاف المليارات.

 

 

رغم التضخم في شكل الحكومة الأمريكية الذي يتذمر منه كثيرون داخلها٬ لكن الحجم البيروقراطي ما زال مضبوطاً مقارنة بباقي الدول٬ بالقياس إلى حجم الولايات المتحدة وعلاقاتها المتشعبة٬ ولم يبتعد المشرعون كثيراً عن ذات المفهوم الفلسفي القديم الذي قامت عليه الجمهورية، وما زالت قيم الحرية واقتصاد السوق راسخة في المفهوم الأمريكي، ويمكن أن تمثل الأصوات الصاخبة في المجتمع الأمريكي حول حقوق حمل السلاح والخدمات الاجتماعية وحق الإجهاض، حجم التفاعل المجتمعي المنتج، الذي ينزاح قليلاً نحو اليمين أو اليسار، دون التخلي عن الوثيقة الأساسية التي أقرها الآباء المؤسسون٬ وهي الدستور، التي تمثل الورقة الأكثر قدماً والأكثر رسوخاً٬ وتدور حوله شؤون السياسة والاقتصاد٬ وتشكل الحالة الفردانية الأمريكية.

 

 

سنغافورة: حكومة كفوءة برؤية اقتصادية

 

 

أما جمهورية سنغافورا فقد تأسست كدولة مستقلة في ستينيات القرن الماضي، بعد خلافات مع الدولة الأم ماليزيا على خلفيات عرقية وسياسية، أدت في النهاية إلى قرار الرئيس الماليزي إخراج سنغافورة من الاتحاد الماليزي٬ وظهرت لأول مرة سنغافورة مستقلة بسيادة خاصة عام 1965، فأنشأت هيكلاً حكومياً يركز على الاستقرار والنمو الاقتصادي والحوكمة الفعالة٬ واعتمدت نظاماً ديمقراطياً برلمانياً بهيئة تشريعية أحادية المجلس، وهيئة تنفيذية بقيادة رئيس وزراء، ورئيس دولة ذي منصب فخري إلى حد كبير، فصل الدستور بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. فتمتعت السلطة التنفيذية، بقيادة رئيس الوزراء بسلطة كبيرة وصُممت الحكومة لتكون مبنية على الجدارة والكفاءة، وركزت على التنمية السريعة لمواجهة تحديات مثل البطالة، ونقص المساكن، ونقص الموارد الطبيعية.

 

 

عند تأسيس سنغافورة٬ كانت حكومتها قليلة العدد، إذ ضمت 10 وزارات ذات خدمات محدودة تلبي الاحتياجات الملحة فقط٬ وذلك لتقليص الجسم البيروقراطي وعدم التفريط المالي وهدر المصاريف في دولة جديدة تعاني من ندرة الموارد. وقد أُنشئت هذه الوزارات لمعالجة وظائف أساسية مثل الأمن والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي. واستناداً إلى السجلات التاريخية وسياق الحكم المبكر لسنغافورة، شملت: وزارة المالية التي أدارت الميزانية الوطنية، وكانت مهمتها تحصيل الإيرادات (مثل الضرائب والجمارك)، والتخطيط الاقتصادي لتحقيق الاستقرار والنمو. ووزارة الدفاع للإشراف على الأمن القومي، بما في ذلك القوات المسلحة السنغافورية الناشئة، وكان هذا أمراً بالغ الأهمية في ظل التوترات الإقليمية٬ إلى جانب وزارات الخارجية والداخلية والتعليم والصحة والعمل والتنمية والاتصالات. كانت الميزانية محدودة، وتعتمد على الاستثمار الأجنبي، مع تركيز العمل الحكومي على جذب الشركات متعددة الجنسيات لبناء البنية التحتية.

 

 

 

هل تتجه سوريا إلى الخيار الصعب أم السهل الخاطئ؟

 

التجربة السورية الطويلة والمؤلمة مع الحكم الشمولي والتي دامت أكثر من 60 عاماً، ألقت بظلالها على الوضع الحالي، إذ اعتمد نظام الأسد على تجاوز رسمي غير منطقي في حجمه، وكان دور الجهاز البيروقراطي النفوذ إلى حياة المواطن والتدخل في كل ما يخصه٬ بما يعني التضييق والمحاصرة إلى درجة الخنق، ومن المفيد الآن التخلص من هذا الإرث الثقيل وتوسيع الهامش الحر لكل مواطن٬ بتقليل التدخل في شؤونه٬ ووضع السوري أمام مسؤولياته الكاملة كمشارك في عملية التنمية٬ وليس ككائن ينفذ اللوائح والتعليمات الطويلة فقط، ويفضل أن يقتصر العمل الحكومي على فرض الأمن وتطبيقه، وجباية الضرائب بعد تنظيمها وعدم المبالغة بها٬ وبناء جسد قضائي كفء، فهو الضامن لعملية التنمية بحفظ الحقوق للجميع، فالحكومة المثالية هي تلك التي تحدث عنها توماس جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة قائلاً: الحكومة الأفضل هي التي تحكم بأقل قدر ممكن من التدخل٬ أما حقوق الأفراد فلا تُمنح من الحكومة، بل هي طبيعية تأتي منذ الولادة.

شارك