آراء

الحصارات وصخرة الإرادة!

يونيو 12, 2025

الحصارات وصخرة الإرادة!

حين تُبحر قوارب “مادلين” وتتقدم “قوافل الصمود” ويُعاد إحياء “أسطول الحرية”، فإن كثيرين يتساءلون: هل ستكسر هذه التحركات الحصار المفروض على غزة؟ والإجابة الصريحة التي لا مجاملة فيها: لا، لن تكسره من الناحية الفيزيائية. لن تتمكن من تفكيك الموانع العسكرية، ولا من اختراق الطوق البحري المحروس بالسفن والأسلاك والبارود. الحصار المفروض على غزة ليس حاجزًا هشًّا يُكسر ببضعة أشرعة أو شعارات، بل هو قرار دولي، وإرادة استعمارية، ومصفوفة من المصالح والخذلان.


لكن هذه القوافل لم تأتِ لتكسر الحصار بالمعنى المادي وحده، بل جاءت لتصوّب البوصلة نحو الحصارات الأعمق، تلك التي سكنت العقول، وخدرت الهمم، وزرعت اليأس في النفوس. هناك حصارات تُفرض دون أن تُرى، وتُطوّق الإنسان قبل أن تطوّق المكان، وهنا يكمن الأثر الحقيقي لمثل هذه القوافل. إنها تكسر حصار النسيان، وتوقظ الذاكرة من سباتها الطويل، وتقول للعالم: غزة ما زالت تحت النار، ما زالت تُقاوِم وتنتظر من يُنصِفها، فلا تجعلوها مجرد خبر عابر في موجز الأخبار، أو فقرة يتيمة في نشرة مسائية.

وتكسر كذلك حصار الانبهار، ذلك الحصار الخفي الذي يجعل الأعداء يظهرون في أعيننا كقوة مطلقة لا تُقهر، ويُقزِّم فينا كل محاولة للمواجهة أو التحدي. حين يرى الناس سفينة صغيرة تُحاول، وقافلة تُبحر رغم العوائق، فإن شيئًا ما ينكسر في داخلهم: انبهار زائف، وخوف متضخم، وإذعان غير مبرر.


وتكسر أيضًا حصار العزلة، ذاك الشعور الخانق الذي يُراد لأهل غزة أن يبتلعوه: أنكم وحدكم، لا أحد يشعر بكم، ولا أحد يطرق أبوابكم. لكن حين تأتي هذه القوافل من أقصى الأرض، وتحمل معها نبض الشعوب وأصوات الأحرار، فإنها تُحدث فجوة في الجدار، وتقول لغزة: لسْتِ وحدكِ.

ولا يتوقف الأمر هنا، بل تتصدع أمام هذه المبادرات جدران السردية الصهيونية، تلك التي تحاول دومًا أن تبرر القيد وتُجمّله، وتُصوّر المحتل على أنه ضحية، وتُلقي باللائمة على المحاصَر لا على من يحاصره. هذه القوافل تُربك الرواية، تُعري الزيف، وتضع الكيان المحتل في مواجهة مكشوفة مع الضمير الإنساني العالمي.

 

ثم إن هذه القوافل تكسر حصار الانهزامية، وهي الحصار الأخطر، لأنه يتسلل إلى الأرواح، ويُغلفها بثوب الواقعية الزائفة، ويُقنعها أن لا جدوى من المحاولة. هذه القوافل تعيد تعريف الممكن، وتقول للناس: ليس بالضرورة أن ننتصر غدًا، ولكن لا يجوز أن نستسلم اليوم.

وأخيرًا، وربما قبل كل شيء، هي تكسر حصار التعلق بالأسباب الدنيوية، والانغماس في حسابات البشر ومعادلات القوة والضعف. هي تذكّرنا أن فوق الأسباب، هناك رب الأسباب، وأن النصر ليس معادلة حتمية من صنع الأرض، بل وعد من السماء. إنها تقول: إن أخلصتم النية، وسلكتم طريق العزة، فإن الله يفتح لكم من أبواب الخير والتمكين ما لا يخطر على قلب بشر.


هذه القوافل ليست مجرد شاحنات أو سفن، إنها رسائل موجهة للعالم، وصرخات مقاومة تسير على الماء، ومرايا نرى فيها ملامحنا كما يجب أن تكون: حرة، واعية، ورافضة للاستسلام.

شارك

مقالات ذات صلة