مدونات
الكاتبة: فاطمة الزهراء حديبة
من منا لا يسعد وكاتبه المفضل يحصل على جائزة عالمية ومرموقة في مجال الكتابة الإبداعية؟ فحينها يخفق قلب القارئ موقنًا أن كاتبه المفضل لن يكون كاتبًا عاديًا، بل تقدم درجات كبرى في مساره، فتكون الجائزة كنوع من التكريم على جهوده ومنتوجه الإبداعي، وتأثيره في القراء. وعموما فإن الظفر بجائزة من العيار الثقيل ليس بالأمر الهين، نظرًا للمنافسة والمعايير الدقيقة التي يمر منها العمل الأدبي. ولا أستحضر والحالة هذه إلا جائزة نوبل في الأدب، التي تُعد من أرقى الجوائز الأدبية في العالم. لكن هل فعلا ستشكل هذه الجائزة العالمية إضافة لمسار الكاتب أم ستكون نذير شؤم عليه؟ فكثيرًا ما ينقلب مسار الكاتب بسبب الجوائز الأدبية، لأن هامش المسؤولية يتضاعف، وينتاب الكاتب قلق مزمن نتيجة الضغط الذي يُفرض عليه. فأن يكتب الكاتب بدون ألقاب شعور مريح جدًا، فلا قراء يعاتبونه، ولا نقاد يتربصون له، ولا لقاءات صحافية تسعى للنيل منه. هذا الوضع يجعلنا نطرح سؤالا هاما وهو: هل تساهم الجوائز الأدبية في تشجيع الكتاب وتحفيزهم على العطاء؟ أم هي فقط إشارة للاحتضار الأدبي ونذير شؤم يتربص بالكُتاب؟
شكل موضوع التأثير السلبي للجوائز الأدبية نقاشا دسما، وكُتب بصدده أطروحات للدكتوراه، ومقالات أكاديمية، مما يوضح أننا أمام ظاهرة شائعة في الوسط الثقافي وليست مجرد تخمينات أو هواجس. وهو ما دفعني لكتابة هذه السطور، واختيار حالات لكُتاب حصلوا على جائزة نوبل للأدب وكانت لعنة على مسارهم، وكذلك اكتشاف الجوانب المخفية حول الأكاديمية السويدية التي يعود لها الحسم في اختيار الفائز وكشف جوانبها المظلمة.
هاري مرتنسون، كاتب وشاعر من أصول سويدية، حصل على جائزة نوبل للأدب سنة 1974. عاش هاري مرتنسون حياة صعبة، ذاق فيها مرارة فقدان الأب ثم غياب الأم، ليترعرع بعدها بدور الأيتام. لكن رغم طفولته القاسية، لم يقف ذلك عائقًا في بروز الجانب العاطفي في نصوصه الشعرية التي تميزت باهتمامه بالطبيعة، وشكلت أداة لنقل معاناة التشرد، وقسوة الحياة. ونظرًا للنجاح المتتالي الذي حققه في مساره الثقافي، أصبح عضوًا في “الأكاديمية السويدية”، لينال سنة 1974 جائزة نوبل للأدب مناصفة مع “إيفيد جونسون” لكتاب “كتابات التقطت الندى وتعكس الكون”. ورغم هذا التتويج المبهر الذي حظي به مرتنسون، لم يكن يدرك أن هذه الجائزة ستكون نذير شؤم وسببًا في إنهاء حياته. إذ تلقى وابلًا حادًا من النقد والتبخيس، نتيجة لجمع هاري مرتنسون بين عضويته بالأكاديمية السويدية وحصوله على جائزة نوبل، مما أدى لتحامل حاد عليه نتيجة جمعه بين المتناقضين. فكيف يكون الفائز بجائزة نوبل هو نفسه عضوًا في أكاديمية مختصة في اختيار الفائز بالجائزة؟
وجد هاري نفسه ضمن حملة مسعورة من الانتقادات من الصحافة السويدية، التي شككت في مصداقية الجائزة، رغم أن “إيفيد جونسون” (شريكه في الجائزة)، حين ألقى كلمة بمناسبة التتويج بنوبل أشار إلى أنهما لم يكونا على علم بذلك، قائلًا: “أُحيي الأكاديمية السويدية على جرأتها في تتويجنا دون علمنا”، حيث يتبين أن الفائزين لم يكونوا على علم مسبق بترشحهم للجائزة. ومع كل هذه التبريرات، استمر النقد السلبي، والإهانات المتواصلة لمسار هاري، الذي لم يتقبل ذلك، وانتحر سنة 1978. ولم تجد الدولة السويدية مخرجًا لهذا الحدث المأساوي إلا بتخليد ذكرى ولادته، وجعلها مناسبة لمنح جائزة سيكادا بالإضافة لإنشاء أكاديمية وجمعية باسمه، كنوع من التخليد والإحياء المستمر لذكراه.
يعترف “هوراس إنغدال” الذي كان أمينًا دائمًا للأكاديمية السويدية بين عامي 1999 و2009 في رسالة بالبريد الإلكتروني، بالطالع السيء للجائزة قائلًا: “طوال سنين، اعتبرت قلّة من الفائزين بجائزة نوبل للأدب أنّ الجائزة ما هي إلا سوء حظ أو نقمة”. فلم يكن هاري وحده من تبعته لعنة جائزة نوبل، بل كذلك كتاب آخرون كفيرنر فون هايدنستام، إريك أكسل كارلفيلدت، إيفيند جونسون، ويشترك هؤلاء الكُتاب بجمعهم بين العضوية بالأكاديمية السويدية، وحصولهم على جائزة نوبل للأدب. وهذا الوضع أثار العديد من الشكوك حول مدى مصداقية وشفافية الجائزة، خاصة أن الأكاديمية السويدية لها صلاحية اختيار الفائز، مما جعل الكثيرين في المجال الثقافي ينتقدون الأكاديمية.
عانى الكثير من الكُتاب من تبعات الجائزة سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر، ومنهم أرنست همنغواي، فبعد أن حقق شهرة واسعة، لحد وصفه بـ”مؤسس الرواية الحديثة”، تدهورت صحته النفسية بشكل حاد، بعد حصوله على جائزة نوبل للأدب سنة 1954، مما أدى لانتحاره برصاصة من بندقيته سنة 1961. رغم عدم وجود علاقة مباشرة بين الجائزة وانتحاره، لكن هناك من النقاد داخل الأوساط الأدبية، يربطون كثيرا بين تدهور الصحة النفسية للكُتاب بعد حصولهم على الجوائز. ولا يتخلف الأمر كذلك بالنسبة للكاتب الياباني “ياسوناري كواباتا” الذي يعد أول ياباني يحوز هذه الجائزة الأدبية المرموقة سنة 1968، وظلت أسباب انتحاره سنة 1972 يلفها الغموض.
لم يكن فقط الانتحار وحده هو مصير الحاصلين على النوبل، بل تارة نقد لاذع، وتارة أخرى موجة من السخرية والتبخيس. إذ لحقت بعض الكتاب انتقادات حول الحمولة الأدبية لأعمالهم كـ”ألبير كامو” الذي حصل على الجائزة سنة 1957 نظرًا لاهتمامه في كتاباته بمشاكل الضمير الإنساني. لكن السؤال الذي كان يلوح في الأفق: ما الذي سيقدمه “ألبير” بعد الجائزة؟ خاصة أن مسيرته لم تكن “وازنة” في نظر بعض النقاد. وكذلك الأمر بالنسبة لـ”بوب ديلان” الذي حصل على الجائزة سنة 2016، قابلها بالصمت دون أن يدلي بتصريح أو يتسلمها حتى. لكن الغريب، هو حصوله على جائزة مختصة في مجال الأدب، في حين عُرف بكونه مغنيًا أكثر من كونه شاعرًا، وهو ما جعل حصوله على الجائزة يثير الشكوك. وتعود أسباب شهرة ديلان للعلاقة الوطيدة بين أغانيه والحركات الاحتجاجية حيث كانت شعارًا للتمرد، لحد وصفه بـ”الشاعر الأعظم”.
كان لبعض الكُتاب نظرة أخرى مغايرة للجائزة بعيدًا عن كونها نذير شؤم، بل اعتبروها أداة للتأثير على الاستقلالية الفكرية للكُتاب، وأنها ذات أبعاد سياسية أكثر مما هي أدبية، وهو ما أدى بجون بول سارتر لرفض الحصول على الجائزة، نظرًا لإيمانه بأن الجوائز تؤدي للتبعية الفكرية.
ونفس الفكرة تبناها “ليو تولستوي” الذي رُشح لجائزة نوبل للأدب لكن لم يفز بها قط. وأعرب السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية أن سبب الرفض راجع للأفكار السياسية التي يتبناها تولستوي. ويُشاع أن هذا الأخير شعر أن الفوز بالجائزة سيعرضه لمشاكل، بسبب نظرته السلبية للمال ويعتبره أصل الشرور (أي القيمة المالية للجائزة)، ويقال إنه طلب من صديقه “أرفيد جارنفيلت Arvid Jarnefelt ” أن يتوسط -إن أمكنه ذلك- لمنعه من الفوز، حينما انتشرت شائعات بشأن فوزه. وفي إطار رفض جائزة نوبل للأدب، أجبر “بوريس باستنراك” على رفض الجائزة لدواعي سياسية.
كل هذه الحالات تؤكد الطابع السلبي للجوائز الأدبية، وأنها ليست دائما فأل خير على الكاتب، ناهيك عن اختيار الفائز من قبل الأكاديمية السويدية الذي يسبقه الكثير من النقاشات المطولة، وغالبًا ما تتهم الأكاديمية بالانحياز، أو القيام بتفضيلات لصالح أعضائها، مما يؤكد أن الأوضاع داخل الأكاديمية ليست دائما إيجابية بل كثيرا ما تكون انعكاسًا لمشاكل داخلية.
اندلعت فضيحة مدوية اهتزت على إثرها الأكاديمية السويدية، وبطلها “جان كلود أرنو” وهو المدير التنفيذي لمنتدى ثقافي، الذي كان يُمول من قبل الأكاديمية السويدية. واستغل جان كلود قربه من المجال الثقافي والأدبي، موهمًا ضحاياه أن له نفوذ وقدرة على التأثير في مسارهن، الذي بلغ عددهن 18 امرأة، اللواتي اخترن الصمت في بداية واقعة التحرش، خوفًا من رد فعل جان كلود المعروف بلقب “سمسار الثقافة” بسبب شبكة علاقاته في المجال الأدبي نظرًا لإدارته للمنتدى. هذا الأخير الذي وصفه بعض المرتادين بأنه “المكان الذي يجب أن تكون فيه، إذا كنت تريد أن يتم اختيارك”، كإشارة لحجم التأثير الذي يخلفه منتدى جان كلود، وأهميته داخل المشهد الثقافي.
عُرف جان كلود بسلوكه المتهور وتحرشه المتواصل حتى أمام عامة الناس، لكن رغم ذلك لم يمتلك أحد الجرأة لإيقافه، إلا بعد نشر سلسلة من التحقيقات، منها للصحفية السويدية “ماتيلدا غوستافسون”، لتنشر فيما بعد كتابًا يحمل عنوان “المنتدى: السلطة وسوء المعاملة وراء الأبواب المغلقة بالأكاديمية السويدية” الذي يتضمن تفاصيل عن مختلف الوقائع المشبوهة التي جرت بالمنتدى الذي كان يديره جان كلود.
وُصفت الأكاديمية، في ظل اندلاع فضيحة جان كلود، بأنها أكاديمية ذكورية نظرًا لكثرة الأعضاء الذكور في مقابل الإناث، الأمر الذي جعل أغلب الأعضاء يساندون جان، بدل الاصطفاف إلى جانب ضحايا التحرش. ووقعت أحداث التحرش والاغتصاب هذه بين سنة 1996 و2017، لكن بسبب التقادم، سقطت 7 شكايات من أصل 18 شكاية قدمتها المساعدات بالمنتدى. وأثناء محاكمة جان كلود، لم يجد مخرجًا إلا التعبير بأن العلاقات كانت بالتراضي حسب صحيفة LE POINT، ليُقفل هذا الملف في الأخير بالحكم عليه بسنتين ونصف، بعد الكثير من الجدل والتكتم الذي أحاط بهذه القضية، والتي اعتبرت مادة دسمة للصحافة السويدية، وأثرت كثيرا على سمعة الأكاديمية السويدية، وجرت وابلا من النقد لجائزة نوبل للأدب. ونتيجة لهذا الوضع المربك، جرى حجب جائزة نوبل للأدب سنة 2018، فضلًا عن استقالة 6 أعضاء من الأكاديمية.
وبعد بيان كل الإشكالات التي تطرحها الجائزة، بداية بالجمع بين الحصول على الجائزة والعضوية في الأكاديمية، مرورًا بما تشهده هذه الأخيرة من صراعات داخلية، ثم مواقف الكتاب الذين يعتبرون أن الجوائز هي ذات أبعاد سياسية هدفها الحد من هامش الحرية الفكرية. فكل هذه الأوضاع المربكة، تشير إلى أن عالم الثقافة والأدب لا يخلو من مظاهر سلبية تؤثر على أداء الكُتاب، وأن الجائزة لا تعني بالضرورة تتويجًا، بقدر ما تكون لعنة تلاحق الكاتب وتجر عليه ويلات الانتقاد اللاذع. فإن لم يحصل كاتبك المفضل على جائزة أدبية مرموقة بعد، فهو جد محظوظ، فلن تسمع نبأ انتحاره، أو انعزاله عن الأضواء نتيجة لترصد الصحافة له…
:1 https://2u.pw/fNWzC حين تصبح جائزة نوبل في الأدب نقمة :
:2why was leo tolstoy not awarded the nobel prize In literature, corwyn b, QUORA.