آراء
لم يفكر المتنبي للحظة عندما كتب مطلع قصيدته الشهيرة “عيد بأي حال عدت يا عيد” أن عبارته هذه سترافق الأجيال العربية وصولا إلى زمننا الحالي وإلى حد تصبح معه هاشتاغ العيد أو الترند بلغة أهل التكنولوجيا الحديثة.
ومع حلول كل عيد من أعيادنا نتساءل فعلا ” عيد بأي حال عدت يا عيد” ونزداد نحن أبناء هذه الأمة يقينا بأن البهجة تقطعت بها السبل إلى بلداننا أو آثرت الرحيل إلى ضفاف أخرى بعدما يئست من عجزنا وبؤسنا، وسافر فرح الطفولة عله ينجو من الغرق في مستنقعات الحزن المنتشرة على أصقاعنا.
أيام قليلة مضت والأضحى كأنه لم يمر أو لم نلمح طقوسه الجميلة وسط زحمة الأضاحي، تلك القرابين البشرية التي يسفك دمها يوميا على مرأى هذا الكوكب المخيف. وكأنما الموت عقد قرانه مع ذاك الركن المنسي من العالم، ذاك الركن في غزة حيث وقف العيد صامتا على أعتابه يسترق النظر من خلف الجدران كأنما أخطأ روزنامة الأشهر والأيام، أو أضل العنوان فطرق باب المتعبين كضيف ثقيل الوطأة، يجلس بربطة عنق تخنقه على ركام القهر، خجولا من دمعة طفل هنا وجوع عجوز هناك أو من أواني فارغة تتزاحم على ما يسد الرمق.
يتنقل الوجع بين بلداننا المثقلة بالهموم والأزمات لكن لغزة وجع آخر لا يصمد أمامه صبر أو مكابرة، ففي تلك البقعة الممنوعة من التجول والمسيجة بالدم والمكتظة بالأضاحي على مدار الأعياد والمناسبات والفصول يصبح العيد استحقاقا محرجا ومخجلا، وقطعة البقلاوة ترفا فقد حلاوته كما فقد طريقه إلى الأفواه المعذبة.
قديما كانت البيوت تعلن حدادها لأيام على جار خطفه الموت في الحي المجاور أما اليوم وبعيدا عن العالم الموازي فإن الحداد أشبه ببوفيه مفتوح على مائدة القتل والإبادة لا يعرف فاصلا بين وجبات الموت المتنقل وطعم القهوة المرة حتى أتخمنا جميعا بأطباق الألم واستوطن القهر أرواحنا قبل أجسادنا.
نجلس على ضفاف الأيام ونتساءل ونثرثر، نعم نحن شعوب تجيد الثرثرة وساعي الكلمات المعروف اليوم بمواقع التواصل والتطبيقات الذكية سهل علينا تلك الثرثرة وفتح لها صفحات وصفحات بعدما انكفأت الأقلام عن ترجمة النبض وإرسال رسائل القلب والإنسان. نتسمر على شاشاتنا نتناحر ونثرثر ونتناقل بث الهموم والشكوى ونبدع في تقاذف المسؤوليات وإلقاء سطور اللوم وانتقاء مفردات الفتن والنعرات، وتعبئة شوارعنا الافتراضية بمصطلحات الكراهية وأبيات التعصب والتباغض، والنصوص الساخرة والفارغة.
تضيع أيامنا على ضفاف الأحزان وأعمارنا التائهة بين دروب الزمن، نتسابق بالثرثرة ويسبقنا العالم إلى فضاءات أخرى، يفرحون ونبكي، يضحكون ونتألم، يشبعون ونجوع، يتقدمون ونتراجع، يسخرون من جهلنا ونتغزل بحداثتهم وهكذا يصلون هم بصمتهم ونمضي نحن بالثرثرة إلى الفراغ وإلى أرشيف افتراضي زائل، لا واقع لنا نستند إليه ولا مستقبل نحلم به.
ماذا بعد؟ وبأي حال سيعود علينا العيد المقبل؟
أسئلة مشروعة للباحثين عن بصيص ضوء في عتمة النفق، يتلمسون طريقهم إلى الحياة بين أراجيح الطفولة المذابة بحمم القذائف وبين بهجة الشوارع المصطنعة والشاحبة كوجه فتاة هاربة من حريق الذكريات، تركض على حبات الرمل الملتهبة ولكل حبة حكاية حزن عربية ترثي حالنا وأحوالنا.
وحده العشق المحتشد في محيط الكعبة ورسائل الأمل المعقودة بمن وسعت رحمته كل شيء كانت تفرد أجنحتها البيضاء على ربوعنا المظلمة فثمة من يرمق من الأعالي جموعا منهكة تطوف وتبتهل وتؤدي مناسك الحب بالسؤال والدعاء وبصلوات خاشعة تطلب العدل والقصاص، عل الرحمة تشمل الصادقين والقلة المراهنة على عدالة الله والحق والإنسان بعيدا عن دعاة التنظير والثرثرة. عندها فقط تفتح الأحلام أبوابها على ضفاف فلسطين وضفاف عربية أخرى وعندها فقط تتلاشى الحدود والفواصل ونهزأ بالزمن وعندها فقط يتزين أبناء الوطن بكوفية لا كفن وعندها فقط نتقاسم كعكة الحب ونفتح ذراعينا للعيد ولكل الأعياد!