آراء
سبقَ وجرّبتُ كسر الحصار، حين كان قابلاً للكسر، أسوار وجدران وأسلاك شائكة وبضع عساكر ومدرعات هنا وهناك، وفي السماءِ زنّانة لا تفارقها، كأنّما خلقت سماء غزّة بسحبها وزنّاناتها ( كنّا نائمين على الأرض في بيت صديق صحفي بمخيّم المغازي، وفجأةً قمنا مفزوعين في نفس اللحظة، ظللنا ننظر أحدنا للآخر، كأننا نتساءل عمّا جرى، لم يكن ثمّة قصف أو إصابة أو توغّل قريب، ثم انفجرنا ضحكًا؛ إذ اكتشفنا أننا فزعنا حين توقّفت الزنّانة عن الزنّ في سماء المخيّم).
واستطعتُ الوصول، ولم يكن بحوزتي-شخصيًّا- غير خمسين جنيهًا مصريًّا ، اشتريتُ بها قصّافة أسلاك معدنيّة من محلّ صغير على الحدود مباشرةً في رفح المصريّة، حينَ استطلعنا المكان ووجدنا أسلاك شائكة وأخرى حديديّة تمت إضافتها للجدارين الثابتين بيننا وبين غزّة.
لم يكن معي سوى نفسي فاصطحبتها إلى هناك عندما بدأت الحرب 2008م، أعانني الله ودخلتُ، ثم أقنعني الرفاق هناك بالعودة “معركة الحريّة مفتاح معركة التحرير” هكذا حُسم النقاش بعد أخذٍ طويلٍ وردّ، وليتني ما عدتُ إذ انحبست روحي هناك ولم تعد معلّقة فوق البيوت المتهدّمة وفي وجوه أطفال كانوا يحلمون مصلي بالنوم بلا زنّانات، ولم يعد ثمّة حلمٌ يراودهم أقصى من كسرة خبزٍ أو شربة ماء، أو أشلاء أحبتّهم التي لملموها عن الركام.
عدتُ بجسدي هنا تتلاطمه الحبوس والميادين والمحاكم والنيابات والمشارح بلا نهاية، وما زال، غير قادرٍ على العودة إلى الروح التي تركتها هناك، ولا استعادتها لأحيي هذا الجسد.
أمّا الآن، حيث وجب على كلّ البشر والحجر والسلاح والورود والخبز والحياة أن يكونوا هناك، فشلت ثلاثة مرّات في الوصول لسيناء-لا إلى غزّة، وبيننا وبينها جدارٌ وبوابة وعساكر. لم أصل إلى سيناء أصلًا هذه المرة، وقد سبق وجُبت القطاع أحد عشر مرة حتى 2013، لم أستطع بلوغ ثلث بلدي؛ فماذا عن القادمين من أقصى الأرض؟ أولئك الذين لم يربطهم بفلسطين إلا ضميرٌ حي، ومركب صغير، وقصّة إنسانية اسمها “مادلين”.
..
مادلين كلّاب ليست مجرد اسمٍ حملته سفينة صغيرة أبحرت من صقلية في يونيو 2025، بل هي رمز لصمود فتاة فلسطينية تحدّت الحصار بقارب صيدٍ مهترئ في الخامسة عشرة، أبحرت مادلين مع والدها في مياه غزة المحتلّة هي الأخرى كأرضها وجوّها، حيث العدوّ وزوارقه الحربيّة تصطاد الأمل في يومٍ آخر على قيد الحياة.
كانت أول فتاة فلسطينية تمتهن الصيد، تحمل شبكتها وشجاعتها، وتبيع ما تجمعه من أسماك لتعيل أسرتها، لكنّ العدوّ سلبها والدها، ثم عاد بعدها ليدمّر قاربها ومستودع الأدوات الصغير الذي كان لهم، فأصبحت مادلين بلا بحرٍ ولا رزق، لكنها لم تكفّ عن الحلم.
سفينة “مادلين”، المحاولة الـ36 لأسطول الحرية لكسر الحصار منذ 2007، حملت اسمها كصرخةٍ ضد الظلم، تكريمًا لها ولنضالها الإنساني البدائيّ/الأصيل، على متنها 12 ناشطًا دوليًا، لم تكن السفينة تحملهم وطحينًا ودواءً فقط، بل حملت معهم روح مادلين التي لا تزال تبحر، متحديةً جدار الحصار وتواطؤ العالم.
كانوا يعلمون أن العدو لن يسمح لهم بالوصول، انطلقوا أصلاً بعد شهرٍ واحد من قصف سفينة الضمير العالمي قرب مالطا، وتجاهلوا التهديدات التي لم تتوقّف والاحتمالات التي رجّحتها كلّ محاولة للتفكيرفي المسار والمصير، ولم يزل في أذهان الجميع اقتحام جيش العدو سفينة “مافي مرمرة” وقتله عشرة أتراك، لكن ركاب “مادلين” واصلوا الإبحار، وكأن كل ميلٍ بحري يقطعونه هو طعنة في جدار الصمت، وبصقة في وجه هذا العالم المقرف.
مادلين وصلت قبل أن تنطلق، لم تلمس شاطيء غزة، لكنها أمسكت بجوهر الحكاية، واخترقت جدار الصمت، بما كان في يد ركّابها، لا من طحين وأرز وحفاضات، بل بالصرخة التي أطلقوها في وجه العالم كما في وجه العدوّ، ذلك العالم الذي أدار ظهره للإبادة، إلا من ثلّة حيّة فيه، لا توقف الجريمة وإن فضحتها، هو ذاته يقف مذهولاً شبه أخرس وهو يرى جيش العدو يقتحم السفينة في المياة الدوليّة، ألم يقمع هو مواطنيه ويسحلهم حين تظاهروا لأجل وقف الإبادة؟ ألم يقتحم أمنه الجامعات ويفصل الطلاب ويعتقلهم؟ بأيّ عينٍ سيخاطب أي رئيس أو مسؤول حكومة العدوّ مطالبًا إيّاها بإيقاف الجريمة، التي هو وحكومته-غالبًا- شركاء فيها؟
…
لكنّ الأعين التي تتعلّق بمادلين ونشطائها، ستنتقل بعد سويعات لمصر، وهي تسير نحوها بالفعل مع قافلة الصمود التي انطلقت اليوم من تونس نحو رفح، محمّلة بالمئات من الأحرار يحملون الغذاء والدواء وصوت الإنسانيّة الحرّ دعمًا للأهل في غزّة، فهل ستتكرّر مأساة مادلين الآن لكن بأيدينا؟ بعدما منعت السلطة مئات الأطباء والصحفيين والمتضامنين من دخول رفح بطول عمر الإبادة، وبعد أن اعتقلت ورحّلت النشطاء الدوليين، وطاردت واعتقلت المتضامنين من مواطنيها، ومازالت تجرّم رفع علم فلسطين أو دخول الجامعة بالحطّة، كأنّما ارتضت بخزيٍ دور الشرطي لا الأخ، والمحاصر لا الجار، تقف السلطة ومعها اسم مصر في مفترق: قافلة “الصمود” تتهيأ للانطلاق، و”مسيرة إلى غزة” في الطريق.
هل تعيد السلطة تمثيل الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل، ولكن هذه المرة بأيدينا؟
هل تمنع الناشطين من الوصول كما سبق وفعلوا مع قافلة ضمير العالم؟
في لحظة الحقيقة، تسقط كلّ التبريرات، وإذا كانت إسرائيل قد نالت لعنة العالم بعد مادلين، فهل تتحمّل مصر لعنة مشابهة إذا ما وقفت على الباب بالسلاح، تُطارد ضميرًا قادمًا لا يحمل سلاحًا ولا حجرًا كما يجب، بل حنينًا ودمعة ورغيفًا لطفل تحت الركام؟
السؤال الآن ليس عن غزة فقط، بل عنّا: هل ما زلنا قادرين على أن نكون بشرًا؟