لم يكن مفاجئًا أن تتراجع مصر في ترتيب مؤشر السعادة العالمي لعام ٢٠٢٥ والذي يرتب الدول من حيث مستوى سعادة شعوبها، حيث جاء وطننا في المرتبة ١٣٥ من بين ١٤٧ دولة متراجعًا بذلك ٨ مراكز عن تصنيف العام الماضي. ويمكن للمهتم والمتخصص أن يعود إلى التفاصيل التي لا يتسع لها المقام هنا لمعرفة المزيد حول المعايير المستخدمة وكيفية إعداد هذا التقرير السنوي الذي يصدر عن مركز أبحاث الرفاهية بجامعة أكسفورد، بالاشتراك مع شركة جالوب وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة.
ترتيب مصر في مراكز القاع، وكذا تراجعها المستمر خلال السنوات الأخيرة، ليس استثناءً في هذا المؤشر دون غيره وإنما أصبح للأسف الأمر المعتاد على مستوى المؤشرات التي تقيس جودة حياة الإنسان بصفة عامة، ومن بينها مؤشر سيادة القانون الصادر عن مشروع العدالة العالمية والذي جاءت مصر في ترتيبه للعام ٢٠٢٤ في المركز ١٣٥ من بين ١٤٢ دولة يتضمنها المؤشر، وهو المركز الأخير بين كل الدول التي يدرجها المؤشر في منطقة الشرق الأوسط، علمًا بأن نتائج المؤشر التفصيلية تضع مصر بين الدول الـ ١٤٢ في المركز ١٠٦ من حيث مستوى الفساد و١٣٠ في العدالة المدنية و١٠٩ في العدالة الجنائية و١٤٠ في الحقوق الأساسية و١٣٤ في تطبيق اللوائح التنظيمية و١٠٢ في النظام والأمان و١٤٠ في الرقابة على السلطة التنفيذية، والملاحظ كذلك التراجع العام خلال العشر سنوات الماضية إذ كان ترتيب مصر عام ٢٠١٥ الـ ٨٨ بين ١٠٢ دولة كان يدرجها المؤشر في عملية القياس آنذاك.
هذان فقط مثالان من بين العديد من الأمثلة لنعرف كيف يقيمنا العالم وأين يضعنا بين ترتيب دوله، لا كيف تتحدث السلطة عن انجازاتها وتروج لها أبواقها دون سند من حياة الناس أو خجل من احتراف الكذب والتضليل. ومن مجموع هذه المؤشرات يمكن للإنسان ذو العقل الواعي والقلب السليم والإرادة الحرة أن يعرف لماذا تنتشر وتزداد مع الوقت حدة الفقر والحزن والخوف والألم لدى الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري، كما يمكن بدراسة تجارب الدول الناجحة أن يطلع على نماذج النجاح في الواقع الحقيقي لا في العالم الافتراضي الذي ترسمه السلطة وتردده الأذرع الإعلامية والكتائب الإلكترونية محاولةً تضليل وتخدير الغالبية الكاسحة ممن يدفعون ثمن الفشل بينما يُراد منهم التهليل لأوهام النجاح، وبعضهم يفعل ذلك تحت الجهل بالحقائق أو القهر بالفاقة أو الخوف من البطش.
إن الدروس المستفادة من دول كانت حتى عهد قريب في ترتيب يشبهنا على مقياس هذه المؤشرات وصارت اليوم بين صفوف الدول المتصدرة (ومنها دول أفريقية وآسيوية ولاتينية) تؤكد لنا أن الحل ليس في إدمان الشعوب للمخدرات السياسية ولا الاستسلام للسلبية والانهزامية وإنما الحل في التمسك بالأمل في التغيير، والنضال المدروس والمستمر حتى إنجاز التحول المدني الديمقراطي الذي يقود لبناء دولة القانون والمؤسسات، التى تتبنى أفضل البرامج العلمية التطبيقية في ضوء ثوابت الاستراتيجيات الوطنية، وتقدم لمواقع الإدارة والقرار أفضل الكفاءات، وترسخ قواعد الحوكمة، وتطبق الفصل والتوازن بين السلطات، إلى آخر معايير الحكم الرشيد التي من بين أهم ما تشمله أنها تضمن للمواطن (الأصيل) أن يختار ويحاسب ويعفي المسئول (الوكيل).
وإن واقع مصر المؤلم اليوم والذي لا يتناسب إطلاقًا مع إمكانياتها ومقوماتها، المهدر منها والمستبعد، ليس قدرًا محتومًا في مستقبلها حتى وإن سادت أجواء اليأس والإحباط بين قطاعات واسعة من المصريين الذين كانوا يتطلعون لغدهم بتفاؤل كبير، ويقبلون عليه بأمل حقيقي، ورغبة جارفة في المشاركة، ونية صادقة في العمل والتضحية.. وذلك غداة الفرصة الكبرى للإلتحاق بعصرنا والانتقال إلى مستقبلنا المستحق، والذي كان متاحًا ومتوقعًا بعد التجلي الباهر لجماهير الشعب المصري العظيم خلال ثورة ٢٥ يناير، قبل أن ينقض عليها كابوس الماضي فيعيدنا إلى أسوأ مما كان قبلها.
ويبقى الحلم ممكنًا، والسعي واجبًا، والوصول أكيد ولو طالت على الوطن المسافة وزادت على المواطن الضريبة.