مشاركات سوريا
مرة أولى أتنفس سورية بعد 37 عامًا، في وطني الذي كبر في قلبي ولم أكبر فيه، في شوارع أعرفها من أحاديث جدتي، وذكريات أمي وأبي، في حارات رأيتها بالصور والفيديوهات، في أماكن سمعت أسماءها من الأصدقاء، وفي مدن وضيعات عرفتها من الخريطة التي تتصدر صالة منزلنا، خريطة بحجم الحائط كانت مرجعنا كلما تعثرت ذاكرتنا باستحضار كل المدن التي حفظناها من الأخبار، والثورة، وحكايات الأهل/ وذاكرة الأجداد.
في سورية جرّبت الأشياء “مرة أولى” بكل ما في المرة الأولى من دهشة المعرفة، واحتدام المشاعر، ولذة التجربة، وأثر الاكتشاف، وصخب الذاكرة، وكثرة المدخلات، وتراكم الصور، وتوالي الانفعالات، وخوف النسيان، وربما صدمة اللقاء، احتاج الأمر شهرين بعدعودتي حتى استطعت إمساك قلمي ومحاولة ترتيب ما أشعلته المرة الأولى من فوضى في الذاكرة والانتماء والعلاقة بين مغتربة ووطن!
لم أعرف سورية إلا بالصور والفيديوهات، حالت الشاشات بيننا على نحو دائم، لكن حين بانت لي من نافذة الطائرة ورأيتها بأم عيني مباشرة من دون شاشات فاض الدمع مدرارًا، ولفتني رهبة اللقاء، كحبيب تتراءى له حبيبته عن بعد وينتظر لحظة العناق.. لم يستحضر قلبي ولساني حينها إلا ما أذكره من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم “صدق وعده”، بقيت أرددها امتنانًا وحبًا وصدقًا ويقينًا، وقد غشيتني رهبة الموقف.
يتناهى لسمعي صوت الشباب في الطائرة وهم يذكرون عدد السنوات التي غابوا فيها عن سورية “12”، يرد زميله “لا والله انا طلعت قبل الثورة بسنتين من 15 سنة” يجيب آخر “والله لو ما انطلبت من بطلع إلي 10 سنين برا”، فيما تصلني شهقات سيدة خمسينية تجلس خلفي، ويبدو أن الوطن كان بعيدًا عنها لسنوات..
استقبلت أرض سورية لحظة وطئتها بسجدة، واستقبلتني بفرح مباغت أوقف سيل الدمع ثلاثة أيام.. كنت خلالها بين مصدق ومكذب، أحاول أن أعيَ معنى الوطن، بقربه، بانتمائي إليه، بفكرة المواطنة، وبأني ابنة هذه الأرض وصاحبتها، حفيدة ترابها وخبزها ووجعها، ثلاثة أيام وأنا أردد همسًا وسرًا كلما شعرت بالتيه “سورية حرة.. وأنا في سورية الآن”، أحاول مساعدة عقلي على ترتيب ذاكرة الفوضى، وكثرة المشاهد، وخليط العواطف، وربما كنت أحاول استيعاب “الروحانية والحنية” التي لفتني منذ لحظاتي الأولى، فالبلد “حنونة” وتعرف أبناءها وإن غابوا!
“حلوة” هذا كان انطباعي الأول عنها، عن شوارعها، وحاراتها، عن سمائها وهوائها، وشمسها، “حلوة” على الرغم من كل التعب والقهر الذي مرت به، وعلى الرغم من كل محاولاتهم لتشويهها وقتل الحياة فيها، حين مشيت بين حارات الشام صباحًا كان قاسيون يطل بين حينة وأخرى، أراه بين الحارات، وفي نهاية الأزقة، قريب للمدينة وللقلب، تذكرت كل أحاديث الأصدقاء عنه، وذكريات أبي، وكل التفاصيل التي أعرفها، لكن الحقيقة أنهم يحدثونك عن قاسيون ولا أحد يخبرك أنه قريب حنون يعانق المدينة كل صباح.
“في كتير سوريين هون” قلتها لأختي في أول مكالمة بيننا، ضحكت ملء شدقيها فيما كنت أعنيها جيدًا، فمن عاش الغربة لم يعتد أن يحاط بأبناء بلده، أن يسمع لهجته الدارجة في كل مكان، وأن يدرك كم تركت الغربة أثرًا على لكنته الأم، كنت أشعر بالانتماء لهم لكن ينزاعني شعور الغربة وأنا أحاول التآلف مع التفاصيل الغريبة، مثلًا لم أتقن عدّ النقود، ولا إمساكها، وكانوا باستمرار يقولون لي “عطيني ساعدك بالعدّ” فيما كان يراودني السؤال ذاته كل مرّة؛ كيف تآلفوا من هذا القدر من الآلاف على نحو يومي، يملك الجميع هناك مهارة العدّ السريعة والإمساك الصحيح لرزمة النقود،ويعرفون الغريب من ارتباكه بإمساك الرزمة أو محاولات العد!
حاولت بداية الأمر أن أكون “الحربوقة” التي تخفي أنها مغتربة، لكن خلال ساعات فقط تنازلت عن “حربقتي” وأقررت بأن الجميع يستطيع معرفة ذلك، فخارطة “جوجل ماب” التي ترافقني، وأسئلتي التافهة عن أماكن قريبة مني، وخطئي بالحسابات دومًا، وبعض الكلمات التي تفرّ من الغربة ولا تشبه الحكي السوري، كلها كانت كفيلة بنظرة “جديدة على البلد.. بكرا بتتعودي”.
سمعت أن من يلتقي أقاربه ويتعرفهم مرة أولى يشعر أنهم غرباء، لكن يبدو أن هذا الوصف غير دقيق، أو لم ينطبق عليّ، فقد تعرّفت خالتي الصغرى حين زرت حماة، كانت خالتي في ذاكرتي كومة صور وحكايات سمعتها من أمي، لم تجمعنا مكالمة فيديو أو صوت، لا أعرف حقيقة ما السبب؛ لكن أعتقد أنه من الصعب تكوين علاقات مع أفراد من العائلة يكبرونك ولم يعرفوا من أنت سابقًا، في أول عناق قالت خالتي: “اشتقتلك”، ضحكت ابنة خالتي الأخرى وقالت: “بتعرفيها حتى تشتاقيلها؟”، فيما شعرت أنا بذلك الشوق، وكأني أعرف خالتي منذ سنوات، ربما لأن “الدم ما بصير مي”، أو لأن “الدم بحن” لا أعرف، لكن كفاني حينها أن يغمرني شعور القرب.
لقاء خالي الذي سُجن في تدمر تسع سنوات كان أكثر اللحظات وقعًا في نفسي، بل لعله لحظة اختزلت كل ما في الغربة من فقد، وكل مافي العودة من وجع الذكريات، لم يعرفني بداية،أخبرته أنني ابنة أخته التي لم يرها منذ سنوات، حدّق بي طويلًا، كمن يبحث عن ملامح أمي في وجهي، ترنّحت ملامحه بين التصديق والذهول، فيما كان يردد بين فينة وأخرى: “أنا بحلم”، خنقتني الغصة كما خنقته، لا سيما وأن في عينيه تختزل حكاية “تدمر” التي لم يحكها لأحد من عائلته أو أخوته، رأيت في وجهه كل المعتقلين المتعبين المحررين من السجون، وكل حكايات تدمر التي قرأتها، فيما وشى جسده النحيل بكل قصص التعذيب التي حاول إخفاءها، ووحشيّة السجانين، وحقبة من عمره لن تنسى، وعلى الرغم من أن خالي قد خرج من تدمر مطلع التسعينيات إلا أن ملامحه وانحناءة ظهره وجسده الذي أنهكه المرض والتعب تشبه إلى حدّ موجع صور المعتقلين المحررين حديثًا، فالأجساد تحكي حكايات البطش التي لا تزول بالتقادم!
حماة أجمل من قصص أمي وأبي، أحلى من ذكرياتهم، أندى من صباحاتهم القديمة، و”عنين ناعورتها” يخبئ ما حملته المدينة من قهر خلال عقود، حين وصلت شعرت بمسؤولية أن أنقل لأهلي كل ما أراه، فبدأت بتصوير الحارات، والشوارع، والأماكن، وكل ما تقع عليه عيني، وإرساله تباعًا لمجموعة العائلة على الواتساب، ظننت أن ذلك سيبهجهم، ويزيل بعض الشوق إلى الحين اللقاء، لكن المفاجأة أن أبي بدأ يسترجع ذكريات مجزرة حماة “هون قتلوا الشباب”، “هون هدوا البيوت على صحابها”، “عند الجسر قصفوا هي الأماكن” .. توقفت، لم أعد أصوّر أو أرسل شيئًا، كأني عبثت بجرح قديم لم يندم، ذاكرة أبي ما تزال عالقة هناك، بالمدينة المدمّرة، والدماء التي سالت، ذاكرته متعبة تأبى أن تشفى، ولا أدري حقيقة كيف سيكون لقاؤه بالمدينة بعد كل تلك العقود!
في زياترتي حاصرني سؤال كثيراً ما كان يتردد بين الحين والآخر في الغربة “الوطن فكرة أم مكان؟”، سؤال يتجاوز الحدود الجغرافية وشكل الخريطة ومكان الولادة والوثائق التي نحملها، وأحسب أننا حين تُسلب منا أوطاننا فإنها تسكن الذاكرة، تتحول لفكرة كثيفة، تتشكل كما نتخيلها، وكما نريد لها أن تكون، تساعدنا ذكريات أهالينا، وحكايات الجدات، وصور الشوارع، وكل التفاصيل التي عملنا على نحتها لسنوات ونحن نحاول تلمّس الوطن في الغربة.
سورية التي عرفتها لا تشبه سورية ذاكرتي بالمطلق ولا تختلف عنها بالمطلق، هي شيء من هذا وذلك، تتراوح بين مسافات الخيبات والآمال، قريبة بعيدة، مألوفة غريبة، أعرفها وأنكرها، أنتمي إليها وأشعر باغتراب فيها، خليط من تناقضات الغربة والعودة، وأحسب أن الوطن ليس فكرة خالصة ولا مكانًا نقيًا، بل خليط منهما يتداخلان على نحو لا يمكن فكاكه، تكسوه روح تتآلف مع أرواحنا، فنشعر لحظة اللقاء أننا لم نغترب عنه يومًا قط.