مدونات

المرء ليس ما يقول بل ما يُخفي دون وعي!

يونيو 8, 2025

المرء ليس ما يقول بل ما يُخفي دون وعي!

للكاتب: إسلام حافظ


في عالمٍ يغرق في السرد، تُصبح الكلمات عملةً زائفة. كلُّ شخصٍ اليوم يُتقن حديث النفس؛ يُدافع عن سيرته، يُزيّن ماضيه، يُنقِّي حاضره، ويضع على جبهته هالةً من البطولة أو النقاء أو العمق الفلسفي، لا يُفهم إلا بشهادته. لكني لا أؤمن بأن الإنسان يُقاس بما يقوله عن نفسه. الإنسان ليس قصته، بل ما ينفلت من بين سطورها دون أن يقصد، ما ينكشف منه دون وعي، حين لا يكون واقفًا على خشبة المسرح، بل مارًّا في الحياة كمجرد عابر. في هذا المرور العابر تحديدًا، تتسرّب الحقيقة. نعم، الجميع قديسٌ في لغته، وضحيةٌ في سرده، ونبيٌّ في مأساته. وحدها التفاصيل الصغيرة، تلك التي نظنها لا تستحق الالتفات، هي التي تصرخ بالحقيقة.


أُصغي لتلك الهمسات الخفية في طريقة مشيه وسط الزحام: هل يدفع الناس ليمر؟ أم يتوقف ليسمح بمرور غيره؟ أراقبه حين يُغلق الباب خلفه: هل يتركه يصطدم بعنف؟ هل يلتفت لمن وراءه؟ وحين يكون أمامه مقعدٌ واحد في مكانٍ مزدحم، هل يزاحم؟ أم يبتسم ويتراجع؟ في هذه التفاصيل التافهة في ظاهرها، تتجلّى الروح أكثر من آلاف الكلمات.


لا أفتّش عن الناس في عظاتهم، بل في صمتهم. لا أقرأهم في خطبهم، بل في نبرات أصواتهم عندما يُفاجَؤون، حين يغضبون، حين يُخذَلون، حين لا تكون لديهم فرصة لتجميل الرد. راقب إنسانًا في لحظة إهانةٍ مفاجئة: هل يردّ بالقسوة؟ بالصمت؟ بالتسامح؟ أم بالحقد؟ تلك اللحظة، أكثر صدقًا من عشر سنواتٍ من أحاديث الأخلاق.


أنظر إلى طريقته في القيادة: هل يشعر أنه وحده في الطريق؟ هل يصرخ في وجه العابرين؟ هل يضرب المقود إذا تأخّر في الزحام؟ أم يُدرك أن الطرق ليست صمّاء، بل مزيج من الناس والظروف والاحتمالات؟ في السيارة، كما في السلطة، يظهر معدن الإنسان حين يشعر بامتلاك القوّة. قليلون من يحتفظون بإنسانيتهم حين يُمنحون شيئًا يُخضع الآخرين.

وحين يكون أبًا أو أمًّا، تظهر أعمق طبقات شخصيته: هل يرى في الطفل روحًا مستقلة؟ أم مرآةً لنرجسيّته؟ هل يُربّي بدافع الحب؟ أم يدفع نحو التكوين كما لو كان يصنع جدارًا على مزاجه؟ هنا، لا تسأل عن نظرته للحرية أو الأخلاق، فقط راقِب كيف يتصرف حين يبكي الطفل في الليل. في تلك اللحظة، حين ينهض أو لا ينهض، حين يحتضنه أو يصرخ فيه، تتجلّى فلسفته الوجودية كلها.

ثم أُصغي لحكاياته عن أصدقائه. لا يعنيني إن قال إنهم طعنوه، أو خذلوه، أو لم يُقدّروه، بل كيف يقولها: هل ما زال يحتفظ بشيءٍ من الحب رغم الألم؟ هل يدعو لهم؟ يذكرهم بخير؟ أم يُحوّل التجربة إلى محكمةٍ أخلاقيةٍ ذات قاضٍ واحد هو نفسه؟


ثم يأتي الامتحان الأعظم: أعداؤه. هنا نعرفه حقًا. كيف يتحدث عن خصمه؟ هل يفصله عن إنسانيته؟ هل يشمت في سقوطه؟ هل يبتهج إن أصابه الألم؟ أم يظلّ يرى فيه نِدًّا مؤلمًا لا يخلو من جدارة؟ لا أحد يُلزمنا بحبّ أعدائنا، لكن طريقة كرهنا لهم تقول الكثير عن أنفسنا.

ولا أنسى الأم. لا أحد يكشفنا مثل علاقتنا بأمهاتنا. هل يتحدث عنها باعتبارها عبئًا؟ هل ينساها في زحمة إنجازه؟ هل يزور قبرها بصمت؟ أم يتفاخر ببرّه لها أمام الناس؟ علاقتنا بأمهاتنا لا تخضع للمقاييس الاجتماعية، بل تُعرّي قاع الروح: كم فينا من امتنان؟ كم فينا من جحودٍ مستتر باسم الاستقلال أو الانشغال أو “الواقعية”؟


وفي المطعم؟ في نداء النادل؟ هناك ترى الممالك الأخلاقية تنهار أو تنهض. هل يُناديه بنديّة؟ يشكره؟ ينظر في عينيه؟ أم يتعامل معه كظلّ؟ في لحظةٍ كهذه، لا يقف أمامك مثقف أو متدين أو مفكّر، بل كائنٌ يواجه كائنًا. سلوكه في تلك اللحظة كفيل بأن يُثبت أو يُلغي كل ما قاله عن العدالة والكرامة والمساواة.

وأخيرًا، هناك كائنات لا تنطق، لكنها تفضح البشر جميعًا: قطط الشارع. في مشهدٍ واحد بسيط: قطة تمشي جائعة قربه. هل يلتفت؟ يطعم؟ يتجنّبها؟ يضربها؟ في هذه الحركة العابرة، يتكثّف العالم كله: الرحمة، أو القسوة، أو اللامبالاة. لأنّ ما نفعله مع من لا يملك الرد، ولا يُنتظر منه مقابل، ولا يستطيع إيذاءنا أو نفعنا، هو ما يُخبر عن معدننا الحقيقي.


نعم، الإنسان ليس ما يدّعيه، بل ما لا يملك الوقت ليُخفيه. هو تصرّفه عندما لا يراه أحد، كلمته حين لا يكون هناك جمهور، ونظرته حين لا يعرف أنه يُراقَب. هو الصدفة، لا المسرح. هو العفوية، لا التنسيق. هو الطريقة التي يسكب بها القهوة، أو يضع الغطاء على كوب غيره، أو يُمهِّد الطريق لعجوز، أو يتجاهلها لأنها تُبطئه. وهكذا، حين يسرد أحدهم قصة نفسه، أُصغي بأدب، وأبتسم، ثم أمضي… لا لأحكم عليه، بل لأنتظر لحظة السهو: حين ينسى ذاته التي روّج لها، ويتصرف كما هو. في تلك اللحظة فقط… أبدأ في قراءته.

شارك

مقالات ذات صلة