مشاركات سوريا
إذا سمعت اسم عز الدين القسام، يتبادر إلى الأذهان مباشرةً فلسطين، سلاح القسام، دويّ الحرب في جبال فلسطين ووديانها، إلى المقاتل الذي أشعل الأرض تحت أقدام المستعمرين البريطانيين والصهاينة المحتلين، إذا سمعت اسمه تمثّل في المخيلة صورة الشيخ الذي دوّت جبال الجليل وسهول يافا بصوته وهدير سلاحه.
لكن مَن منا يلتفت إلى القسام الأول؟ إلى القسام رجلاً يُعد في البيئة الأولى قبل أن يكون رمزاً يكفي أن يذكر اسمه لتُستدعى الحرب والمقاومة، سآخذكم اليوم لنعرف ونفهم كيف كانت البيئة الجبلية السورية والساحل السوري بذرة المقاومة الأولى التي أشعلت في عز الدين القسام غابة المقاومة الفلسطينية، لنرى على ثرى سوريا الشام كيف تهيأ القسام ليصير زعيماً لا مجرد مقاتل عابر في أروقة التاريخ.
حيث تثني البلدة السورية مفاصلها الصغيرة، وتلملم الجبال شعث ألسنة البحر، تتربع جبلة البلدة السورية الصغيرة، هناك ولد محمد عز الدين بن عبد القادر القسام عام 1882. في بيت علم، إذ كان والده إمام جامع المنصوري وخطيبه، فكان لذلك أثر حاضر في جعل المسجد بيت القسام الثاني، وفي تمكين صورة المحراب من ذهن القسام الناشئ، شهد القسام في جبلة منذ طفولته الاحتلال الفرنسي، وظلم الإقطاع واستغلال الفلاحين واستعباد الخليقة بظلم السلاح، شهد القسام ذلك وهو ابن المحراب والمسجد، وبدأ يتكوّن داخله وعيٌ مبكر بأن الدين ليس عزلةً روحية، بل مشروع مقاومة وعدالة.
درس في المدرسة الابتدائية في جبلة، ثم في المدرسة الرشدية في اللاذقية، قبل أن يشدّ الرحال إلى القاهرة، حيث الأزهر الشريف. هناك، تعلّم القسام الفقه والحديث واللغة، كما تأثر بروح الإصلاح الفكري التي اجتاحت العالم الإسلامي مطلع القرن العشرين، وخصوصاً دعوات الجهاد والمقاومة في وجه الاحتلالات الأجنبية.
عاد القسام إلى جبلة عام 1903، حاملاً علم الأزهر وروحه، بدأ بالعمل مدرساً وخطيباً وإماماً في جامع المنصوري، لكن شيئاً فشيئاً بدأت مهمته تأخذ أبعاداً أوسع منها دينيةً مجردة، إذ صارت الحلقات التي أسّسها القسام للتدريس ووعظ، تصبح حلقات تعبئة سياسية، يزرع فيها بذور الوعي بين أبناء بلدته. حتى صار واضحاً في خطبه رفضه للظلم، سواء ظلم السلطة أو ظلم الاحتلال، وكان لا يتردّد في شجب الغزو الفرنسي لسوريا بعد انهيار الدولة العثمانية.
استمر الأمر على هيئته حتى صار القسام زعيماً روحياً واجتماعياً في جبلة، يجتمع الناس حوله للصلاة والتنظيم والنقاش والعمل ضد الاحتلال، هكذا شكّل القسام وأتباعه وإخوانه نواة عمل المقاومة في الساحل السوري.
مع بدء الاحتلال الفرنسي لسوريا، أشعل القسام زند المقاومة وحمل السلاح وقاد مجموعات صغيرة من المقاتلين في جبال الساحل، ينفذون هجمات على مواقع الفرنسيين. كان القسام يدرك محدودية قدراته، لكنه رأى أن المقاومة واجب على كلٍ صعيد ديني وأخلاقي واجتماعي وإنساني، ودفع الظلم والاحتلال أياً كان الدافع واجب، ولو رجحت كفة العدو العسكرية.
واجهت هذه المجموعات تحديات كبيرة: نقص السلاح والمال، ضعف التنسيق بين المناطق، خيانات بعض الزعماء المحليين، التفوق العسكري الفرنسي. مما اضطر القسام للتراجع بعد عدة معارك، ولأن المؤمن بفعله لا يُحبط إنما يأخذ الدروس، تعلم القسام أن النبل والغضب وحدهما لا يكفيان، وأن المقاومة تحتاج مشروعاً متكاملاً، وتعبئة شعبية، وتنظيماً صارماً.
مع اشتداد الخناق الفرنسي، غادر القسام سوريا متجهاً إلى فلسطين، وهناك وجد أرضاً جديدة لنقل مشروعه. في فلسطين، لم يبدأ القسام من الصفر، حيث حمل معه خلاصة تجربته في جبلة: أهمية العمل السري، مركزية العقيدة الدينية في المقاومة، أهمية بناء قاعدة شعبية عامة لا تعتمد على النخبة وحسب.
ومع تصرّم الأيام والليالي كان القسام يجدُّ في بناء شبكة واسعة من الخلايا المسلحة، وخلال ساعات البناء كان خطابه التحريض الديني والتعبئة الوطنية حاضراً، فنجح بالتعبئة الشعبية الكاملة واسعة الأطياف، وعلى إثر ذلك حين فجر ثورته الكبرى في الثلاثينيات، كان قد أرسى بالفعل منظومة مقاومة تختلف عمّا عرفته فلسطين من قبل، لأنها ببساطة كانت عصارة تجارب صقلتها يد الجبار في تنقلات القسام في محيطه العربي.
الفكر الذي صاغه القسام في جبلة حمله معه إلى فلسطين، ويمكن تلخيصه في ثلاثة محاور أساسية:
أولاً: الدينُ محرك للمقاومة، لا واعظاً سلبياً.
ثانياً: الشعب شريك في الكفاح، لا متفرجاً أعزلاً.
ثالثاً: القضية جزء من صراع أممي، ليست صراعاً محلي الطابع.
حملَ القسام الفكر المصاغ في المحاور الثلاثة هذه، وانطلق به إلى فلسطين، مازجاً بذلك بين الهوية السورية والهوية الفلسطينية في مشروع عابر للحدود، سبق زمانه بوعي عميق بطبيعة الاستعمار الحديث، ووضع أسساً لمقاومة لا تعترف بخرائط مرسومة على الورق.
حين سقط القسام شهيداً في فلسطين عام 1935، رحل بذلك رجلٌ حمل في قلبه وعقله ذاكرة جبلة ومعاركها وناسها وتجربتها، لهذا، فإن قراءة سيرته لا تكتمل إذا كانت محصورة في فلسطين وحدها، إنما يجب أن نعود بها إلى جبال الساحل السوري وإلى مسجد أبيه، وإلى حلقات الأزهر الشريف، إلى الخيبات الأولى التي صاغت عقيدته، وإلى وعيه بأنّ القضايا الوطنية لا تُخاض منفردة، بل تُخاض كجزء من مشروع أكبر لأمة تسعى إلى التحرر.
لقد كان القسام ابن سوريا كما كان ابن فلسطين، كان ابن الشام وكان ابن عصر إسلامي كامل يؤمن بأنّ الاحتلال مهما تغيّرت وجوهه، يبقى عدواً واحداً، وأنّ السلاح مهما تفرّق، تكفي لتوحيده قضية واحدة.