تأملات
كنتُ أقرأ دعاءً لسيّدي زين العابدين بن الحسين عليه السلام، وردَ بأنّه دعاه يوم عرفة، يقول من ضمنه (ولا تستبدل بي غيري، ولا تغيّر لي اسما، ولا تبدّل لي جسما) فبكيت، في لحظةٍ شعرت أنني أبكي على جبل عرفات، وأنني في ذروة ذلك اللقاء السرمديّ بين العبد وربّه، فهل حملني الدعاء إلى هناك، أم هو إحساسي العالي بالكلمات أم أنّ قلبي استطاع الولوج إلى عرفات والوقوف عليه؟
العبد لا يحتاج إلى الوقوف على عرفات جسدياً أقصد ليعرف الله عزوجلّ أو ليعترف بذنوبه، لكنّها شعائر يؤديها لأنّه يعرف أنّ ذلك المكان مقدس وأنّه أحد أركان الإسلام، لكن هل يمكن أن يحجّ العبد من مكانه، وهو يرزح تحت نار الحرب مثلي؟
أستطيع أن أجيب ب(نعم)،
سبحان ربنا الذي جعل الحج فرصة ليخلع العبد الدنيا عنه ويَفِدَ إلى الله إلى حدّ أنّه يعود منه كيوم ولدته أمّه بلا أي ذنب، ووجود مثل هذه الشعيرة في الإسلام مهم للغاية، لأنّ الله عز وجل يقول لك هنالك فرصة لتطوي صفحة الماضي المليئة بالذنوب، وتُولَد من جديد، لذلك من لم يعد من المشاعر المقدسة وهو يشعر بأنه إنسان آخر روحيا وجسدياً فتجربته الروحية في الحرم المكي لم تكن مكتملة!
أعود إلى تلك اللحظة التي أحسست بها أنني أبكي على جبل عرفات (لم تكن خيالاً)، لأنّ روحك التي نفخها الله بك، تعرف ربّها أكثر منك، خاصّة إذا استطاعت أن تشفّ وأن تقلّص مساحات طينك المتمثلة في شهواتك الدنيوية، وإذ جعل الله جبل عرفات هو المكان الذي تلاقى فيه سيدنا آدم وسيدتنا حواء على الأرض ثيمة للتعارف، فإنّه أيضاً جعله ثيمة للاكتمال، وكأنّ سيدنا آدم حينما التقى سيدتنا حواء اكتمل بها، ذلك الالتقاء الذي نتجت عنه السلالة البشرية إلى يومنا هذا، فكنتَ أنت، وكنتُ أنا، أي أنّه الجبل الذي يحمل (طاقة التلاقي)، تلتقي بذنبك واضحاً راجماً إياه، تلتقي بتقصيرك خجلاناً منه، تلتقي بربك مشتاقاً إليه، راجياً رحمته، وأنت تتقلب بين هذه التلاقيات تكتشف أنّ قلبك يتبلور وتكتمل قدسيته وهو يدرك كم أنّها دنيا فانية، وأنّ الحقيقة كلّها تكمن يوم تطوى السماوات بيمينه وتنشر الصحف.
أنت تدرك هذا الأمر بطبيعة الحال من سماعك عنه وقراءتك للمواقف الحياتية، لكنّك تعيشه أكثر وتتذوق معناه وأنت تقف على جبل عرفات تنظر إلى الدنيا بحجمها الحقيقيّ، تلك التي استحقَت أن تُرجَم وهي لا تفتأ تغويك بين الخاطر والخاطر.
لكنني أشعر أنّ غزّة تشبه جبل عرفات، منذ عامين وأنا أرجم فيها غواية الدنيا، وأقف أعلى جبل ألمي وأنا أصرخ به صبري أعظمُ منك، تلاحقني القذائف، وأنا أقول لها لا تضرينني إلا بإذن الله، أجوع فأقول لله أنت المطعم، أعطش فأقول له أنت الساقي، أضجر فأتذكر ما هي الدنيا إلا أيام وتفنى.
لكنّ غزة لا تعطيك معنى الوقوف على جبل عرفات لمدة ساعات معينة في التاسع من ذي الحجة، إنّنا منذ عامين نعيش هذا التفصيل الدقيق، والحقيقة أنّنا تجاوزنا إحساس الوقوف على عرفات قس تجليات معناه الروحية، في كل مرة كان يقترب منا الموت، كنّا ندرك تماماً أنّه لا ملجأ لنا سوى الله بحقيقتها ومعناها كاملاً دون أي ثانية للمجاز بها.
سيذبح المسلمون أضاحيهم في عيد الأضحى، بينما نحن نذبح رغباتنا، سائلين الله أن يتقبل منّا صبرنا على الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، واثقين به سبحانه وتعالى أن يفدينا بكبش كما فدا سيدنا إسماعيل عليه السلام، وأن يذيقنا تجليات ( وبشر الصابرين) بشارة تكون حقيقة مادية ومعنوية يشهدها الجسد والروح.
من عرفات غزّة إلى عرفات مكّة:
لقد رجمتُ الشياطين اليوم دون أي حصى، رجمتها وأنا أقول لها لم يعد لديكِ متسعٌ في قلبي الذي تنازعينه على الدنيا، وقد عرفتُ الله عزّ وجلّ في كلّ مرةٍ كدت أنهار بها فأنقذتني سكينته، وقد قرأت القرآن كأنّه يتنزّل على قلبي في وقتٍ انقطعت كل اتصالات الدنيا عنا، وقد رأيتُ الكعبة أمام ناظريّ في كل مرّة يسيلُ بها دم شهيد، وفي كل مرّة يقول بها أبٌ صابر في الفقد ” إنّا لله وإنّا إليه راجعون”
لقد طفتُ كثيراً حول ابتلائي، فتحققت بالرضا، وأبصرت حقيقة الدنيا ومعناها المتدني وصورها الزائفة، وأنّ ما عند الله خير وأبقى وأجمل وأعلى وأصفى وأكثر دهشة ودواما وعظمة
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم




