مدونات

في العيد، هناك مَن يضحك.. وهناك مَن يُذبح!

يونيو 7, 2025

في العيد، هناك مَن يضحك.. وهناك مَن يُذبح!

عماد الدين الغزالي


بدأ العيد يا سادة.. افترشت الكعبة بياضها، وتهامست الأرواح ما بين التكبير والرجاء، كأنّ الأرض تخلّت عن جاذبيّتها للحظة، وعلت الأرواح في ارتجافٍ صادق، ترتعد لا من البرد، بل من وطأة القرب.. القرب من الله، ومن الشوق، ومن الرجاء أن يُمسك القدرُ القلمَ بشيءٍ من الرحمة.

وقفوا.. طافوا.. بكوا وهم يجرّون تعبَ أعمارهم حول البيت العتيق، تتقافز دموعهم من شرفات القلب.. خاشعين، تائهين بين نور الدعاء وظلمة الذنوب.
ثم ودّعوا.. شدّوا أزرهم وارتدّوا إلى بيوتهم، إلى دفء الأبناء، إلى ابتساماتٍ تنتظرهم خلف أبوابٍ لا تقصفها الطائرات، ولا تتربّص خلفها المجازر.

لكن…!
في غزّة؟
غزّة لم تعرف الوقوف بعرفات، لأنّ عرفاتَها قصفٌ وركام..
غزّة لم تعرف الطواف، لأنّ موتها طاف بها سبعًا!
لم تذبح أضاحيها، بل ذُبِحت على مرأى العالم.. بل ذُبِح العالم على أعتاب سكوتِه!

في غزّة، أيها السادة، العيد يتسلّل كخيطِ دخانٍ أسود من تحت الأبواب المهدّمة، تتسلّل أصوات التكبير شاحبة، كأنها تصرخ من حنجرةِ جثّةٍ لم تُدفن، الفرح شهيدٌ آخر.. أُخرِج من تحت الردم دون رأسٍ، أو دون قلب!

في غزّة، لا يشتري الأطفال ثياب العيد، بل تُغسل أجسادهم الصغيرة وتُكفَّن بثيابٍ لم تُلبس بعد، لا تلتمع في أعينهم فرحة، بل يتوسّدون وسائد الدماء، لا يركضون إلى الألعاب، بل يركضون إلى النجاة إن بقيت نجاة!

هنا، في أقصى الألم.. في الركنِ المنسيّ من هذا الكوكب الساخر، في هذه البقعة التي تُؤكَل كل يوم، وتُذبَح كل ساعة، وتُباع كل لحظة، هناك عيدٌ آخر.. عيدُ الخوف، عيدُ السواد، عيدُ الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءً لن يعودوا، أو يعودوا بلا ملامح!

غزّة، يا سادة، ليست مدينة، بل نداءٌ طويلٌ ما زال يُطلَق منذ عقود، نداءٌ لم يسمعه أحد.. أو تظاهر الجميع بالصمم.


غزّة لا تفرش الأرض سجّادًا، بل تنام على الشظايا.
لا تذبح خرافًا، بل تُذبَح كما تُذبَح الخراف.. دون صوت، دون محكمة، دون ضمير.

غزّة، أيها العالم، لا تنتظر الحجيج، بل تنتظر الحياة، تنتظر قُبلةً من السماء، أو حتى نظرةً من بشر!

هل تعرفون كيف يبدو العيد في غزّة؟
هو جثّةٌ صغيرةٌ تتدلّى من بين ذراعي أبٍ مذبوح القلب، هو فستانٌ طفوليٌ تناثر نصفه تحت الركام، ونصفه الآخر على حبل الغسيل الذي قُصف، هو تكبيراتٌ تُسمع من تحت الأنقاض لا من فوق المآذن، هو اللهفة المكسورة لأمٍّ كانت تعدّ أولادها لصلاة العيد، فأصبحوا يعدّونها بينهم في الشهداء!

في غزّة، لا توزَّع الحلوى، بل تُوزَّع الأخبار السيئة كأنها قدرٌ لا يُرد، لا تُشعل الفوانيس، بل تُشعل الحرائق، ولا تُشعل الألعاب، بل تنفجر القنابل في كفّ طفلٍ يحلم بمفرقعات!

يا أهل مكة.. يا من أتممتم حجّكم واغتسلتم بنور الغفران، تذكّروا من لم يجد حتى ماءً يغسل به دمه، من لم يُكتب له الطواف حول البيت، بل طاف به الموت حول أطلال بيته المهدم!
تذكّروا من لم يقف على عرفات، بل وقف على باب السماء، يستجدي الملَك أن ينتظر قليلاً، أن يتأخر بالموت، علّ طفلته التي في حضنه تُكمل زفيرها الأخير!

تذكّروا غزّة.. فالعيد عندها وجعٌ يُرصّعُ الجدران، وصمتٌ ثقيلٌ أشدُّ من دويّ الغارات!
العيد هناك ليس وقتَ تهنئةٍ، بل وقتُ دفنٍ، ليس وقتَ زيارات، بل وقتُ إحصاءٍ للأشلاء، ليس وقتَ ضحك، بل وقتُ بكاءٍ مُختنق لا يجد له صدرًا آمنًا!

غزّة لا تزيّن أبوابها بالمصابيح، بل بالصور المعلّقة على الحيطان.. صور أولئك الذين رحلوا قبل أن ينضجوا!
غزّة لا تستقبل الضيوف، بل تستقبل الصواريخ، تستقبل الأسى، تستقبل الفقد!
وفي العيد؟ يتوزّع الفقد كما تتوزّع التهاني في بقيّة العالم!
كل بيتٍ له شهيد، وكل شارعٍ له مجزرة، كل حجرٍ له ذاكرة، وكل ركنٍ له بكاءٌ قديم يتجدّد في كل موسم!

العيد هناك.. صندوقٌ صغير تُطوى فيه الذكرى، يُخبّأ في قلبِ طفلٍ لم يكبر، لأنه مات قبل أن يعرف كيف يُعيّد!

يا أيّها المُرفّهون في مدن الطمأنينة، لا تكتفوا بالدعاء… ولا تُكثروا من الصور والنياح الرقمي!
غزّة لا تريد بكاءنا.. بل تريد أن تُحيا!
تريدُ أن تعيش كباقي المدن، أن تحتفل، أن تضحك، أن تخطئ، أن تحبّ، أن تخطّ خططًا لا تُجهضها الطائرات!

غزّة يا سادة، ليست خبرًا يُذاع، ولا لقطاتٍ باهتةٍ تتكرّر في نشرات المساء، غزّة اختصارُ القهر، وتوقيعٌ يوميّ باسم الغياب!

وأنتم… وأنتم تخلعون إحرامكم، وأنتم تعانقون أبناءكم، وأنتم توزّعون التمور والحلوى، تذكّروا أن في غزّة أُمًّا ما زالت تحت الأنقاض، تنتظر من يزيح عنها الركام.. لا لأجل نفسها، بل كي تحتضن طفلها للمرّة الأخيرة!


يا سادة، العيد ليس عدلًا.. إن لم تعرف غزّة شيئًا منه، فكل عيدٍ خارج غزّة ناقص!
وكل تكبيرٍ لا يشتمل على اسمها… ناقص!
وكل دمعة لا تذكر أطفالها… باردة!

غزّة ليست قصة.. غزّة فضيحة الزمن، وعارٌ نُغسله بالدعاء ونُلطّخه بالصمت!
غزّة ليست شهيدة.. بل هي حياةٌ تُذبَح كلّ يوم ولا تموت!

فيا ربّ، اجعل هذا العيد مرآةً تُرى فيها قبحُ سكوتنا، واجعل من دم غزّة صلاةً… علّ العالم يُفِيق.

شارك

مقالات ذات صلة