مجتمع
–إسلام حافظ
في زمنٍ تفيض فيه شاشات الأخبار بصور الموت والدمار، وتبدو فيه الكلمات عاجزة عن احتواء اتساع الألم الإنساني، يعود عيد الأضحى محمّلاً بدلالاته الكبرى، لا بوصفه مناسبة دينية محصورة في طقوس الذبح والتكبير، بل كحدث رمزي عالمي، يضعنا وجهاً لوجه أمام أسئلة وجودية جوهرية: ما معنى أن نُضحي؟ لأجل من؟ وبأي ثمن؟ وما قيمة الإنسان في عالم يفتك فيه الجوع والرصاص بالبشر كما تفتك النيران بالحطب؟
عيد الأضحى، في جوهره، هو احتفاء بقيمة عليا تتجاوز الأديان والثقافات: العطاء. ليس العطاء المشروط أو العابر، بل ذاك الذي يمتحن النفس في أعز ما تملك. تضحية ترتقي من بعدها الشخصي لتصبح فعلاً وجودياً، يستدعي من الإنسان أن يتجاوز أنانيته وغرائزه، ويقف عارياً أمام خياراته، ليختار أن يمنح بدل أن يأخذ، أن يُبقي الآخر حياً، ولو على حساب راحته أو حريته أو حتى حياته.
لكن ماذا تعني هذه القيم في واقع اليوم؟ في عالم مُثقل بالمآسي، كيف يمكن لفكرة التضحية أن تتجلى وسط الرماد والدموع؟ لننظر حولنا، لا في عيون المحتفلين، بل في عيون المكلومين الذين لا يجدون للعيد طعماً، سوى أنه ذكرى فادحة لفقدٍ لا ينتهي.
في فلسطين، حيث يتحول العيد كل عام إلى محطة جديدة للحزن، لا تُوزع فيه الأضاحي بل تُحتسب فيه الشهداء، ثمة فداء لا يُروى في القصص، بل يُكتب بالدماء. هناك، لا يُسأل الطفل إن كان يعرف قصة إبراهيم، بل يُسأل إن كان قد نجا الليلة الماضية من القصف. في غزة، التي أُغلقت عليها أبواب العالم، تُذبح الإنسانية نفسها على مرأى الكوكب، وتُغتال القيم في وضح النهار. ومع ذلك، ينبعث من ركام البيوت وصرخات الأمهات معنى جديد للأضحية: أن تتمسك بالحياة رغم الحصار، أن تبتسم لطفلك رغم الدمار، أن تصر على الغد رغم أن كل ما حولك يُصادره.
الفلسطيني اليوم هو مرآة العالم ليرى ذاته؛ اختبار صارخ لما تبقى من ضمير بشري. وكل صمت عن مأساته هو خذلان ليس له وحده، بل لفكرة الإنسان فينا جميعاً. وحين نحتفل بالعيد وسط الراحة، فلنتذكر أن الأضحيات هناك ليست خرافاً بل أطفالاً وشيوخاً وشهداء، وأن الفداء لا يُنشد في الدعاء فقط، بل يُمارس بالصبر والمقاومة والإيمان بالحق.
في السودان، الصورة ليست أقل قسوة. بلدٌ تمزقه الحرب كما تمزق السكين اللحم، تنهار فيه الدولة، وتتلاشى فيه ملامح الأمان. لكن وسط كل هذا الخراب، يعلو صوت التضامن الإنساني من تحت الركام. سكان يفتحون بيوتهم للنازحين، أطباء يواصلون العمل تحت القصف، أمهات يخبزن الخبز لجيرانهن رغم شح الدقيق. التضحية هنا لم تعد فعلاً رمزياً، بل ممارسة يومية لحفظ ما تبقى من معنى في عالمٍ انكسر.
في السودان كما في فلسطين، وفي كل بقعة يئن فيها البشر، يعيدنا عيد الأضحى إلى جوهر السؤال: من نحن إذا لم نكن لبعضنا؟ ما جدوى الأديان والفلسفات والمبادئ إن لم تحمِ الإنسان من الذل والجوع والموت؟ ماذا نكون إن لم نتعاضد حين يشتد الخطب؟
لا يتعلق الأمر بترف التأمل ولا بلاغة الكلمات، بل بدعوة لأن ننظر في المرآة فنرى الإنسان الآخر امتداداً لذواتنا. الفداء ليس قصة قديمة نرويها كل عام، بل خيار وجودي يجب أن نمارسه في وجوه اللاجئين، في أعين المنكوبين، في قلوب أولئك الذين يعيشون خارج دوائر الضوء والاهتمام. كل من يمد يده لمساعدة محتاج، كل من يتكلم نيابة عن صامت، كل من يتخلى عن جزء من راحته ليمد جسراً بينه وبين المعذَّبين، هو يمارس فعل الأضحية كما أرادها الوعي الإنساني أن تكون.
العالم اليوم لا يحتاج فقط إلى سياسة جديدة، بل إلى أخلاق جديدة. إلى استعادة فكرة الإنسان بوصفه غاية لا وسيلة. إلى أن نعيد الاعتبار للمعاني التي شوهها الاستهلاك، وأن نعيد بناء التضامن على أسس تتجاوز القومية والدين والجغرافيا، لتلمس الجرح الإنساني أينما كان.
عيد الأضحى إذن، حين يُقرأ بعين القلب، يصبح لحظة مراجعة شاملة: هل ما نفعله يكفي؟ هل نتواطأ بصمتنا؟ هل نعيش لأنفسنا فقط؟ هل نستطيع أن نكون أكثر إنسانية في هذا العالم القاسي؟ لا يكفي أن نذبح الخراف، علينا أن نذبح فينا الجُبن، واللامبالاة، والانغلاق، والتعالي.
إننا نعيش في زمن يسائلنا كل يوم، ولا يترك لنا رفاهية التجاهل. أطفال فلسطين وسودانيو الخيام ونساء اليمن الجائعات ومهاجرو المتوسط الغارقون، ليسوا أخباراً عابرة، بل علامات استفهام معلقة فوق رؤوسنا جميعاً. وما لم نحمل هذه المعاني في قلوبنا، وما لم نستحضر قيمة الفداء كدعوة لفعل، لا لذكرى، سنظل نحتفل بأعياد لا تلامس الحقيقة، وننشد سلاماً لا يشبه العالم.
ليكن عيد الأضحى هذا العام أكثر من مناسبة، ليكن ضميراً حياً، وصوتاً في داخلنا لا يصمت. ليكن لحظة نقرر فيها أن نكون طرفاً في صنع التغيير، لا متفرجين على اتساع الجراح. فإن لم تكن التضحية من أجل الإنسان، فلأجل من تكون؟