Blog

حين يصبح الإنسان خبراً عابراً!

يونيو 6, 2025

حين يصبح الإنسان خبراً عابراً!

للكاتب: إسلام حافظ


في الزمن الذي أصبح فيه كل شيء قابلاً للتداول، من المعاناة وحتى الموت، تبدو الإنسانية كمفهوم أخلاقي في حالة انسحاب بطيء من الوعي العام. ليست الإنسانية هي التي ماتت، بل نحن من نزعنا عنها قدسيتها، جرّدناها من سياقها، ثم وضعناها على الرفّ إلى جوار باقي “الكلمات الثقيلة” التي نستخدمها كديكور لغوي في الخطب الرسمية أو شعارات الحملات الدولية.

لقد صارت الإنسانية مصطلحًا هشًا، يتردد بإفراطٍ لكنه يُمارَس بندرة. نناجيه وقت الكوارث، ثم نتخلّى عنه عندما تقتضي الضرورة السياسية أو المصلحة الاستراتيجية. كصحفي، لم يعد السؤال الأهم هو: “ما الذي حدث؟”، بل “ما الذي لم نعد نراه؟”، أو بتعبيرٍ أكثر خطورة: “ما الذي توقفنا عن الإحساس به؟”. لأن أخطر ما في الانهيار الإنساني ليس الوحشية، بل الاعتياد. أن نرى المجازر بالصوت والصورة، فنكتفي بهزّ الرأس، أو بكتابة تغريدة، ثم نواصل التمرير السريع عبر الشاشات. أن تمرّ صور الأشلاء، والأمهات المكلومات، والأطفال المحروقين، كأنها مقاطع من فيلم قديم شاهدناه ألف مرة، وفقدنا تجاهه أي استجابة وجدانية.


الإنسانية ليست شفقة لحظية، ولا تَأثُّرًا سريعًا بمشهد صادم، بل موقف أخلاقي جذري من العالم. هي تعبير عن تصورنا للآخر، أيًّا كان لونه أو دينه أو جنسيته، وعن مكانة الإنسان داخل المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وإذا أردنا أن نكون دقيقين، فإننا نعيش اليوم في منظومة نُزعت منها مركزية الإنسان. لا شيء في عالمنا المعولم يضع الفرد — بوصفه قيمة في حد ذاته — في قلب القرار. بل إن الإنسان يُقاس الآن بموقعه من السلطة أو السوق: مواطن من الدرجة الأولى إذا كنت تنتمي للدول الغنية، ومنسيٌّ بلا اسم إذا كنت تنتمي لأطراف الخرائط أو ما يُسمى بالمناطق الرمادية.

ولعل أكبر اختبارات الإنسانية تحدث اليوم على أطراف هذا العالم الذي يدّعي التنوير: في معسكرات اللاجئين، في السجون، على الحدود المغلقة، في المدن التي تُقصف بلا هوادة، في الزنازين المعتمة التي تُعذَّب فيها الحقيقة قبل الجسد. هناك، في العتمة، تُختبر الشعارات الكبرى. لا تحت أضواء المؤتمرات، بل في قدرة العالم على رؤية الإنسان، لا كمشكلة أمنية، بل ككائن يستحق الحياة دون شروط.


لقد أصبح من السهل اليوم أن تُباد مدينة، أو تُمحى قرية من الوجود، ثم تتحول المأساة إلى “تطور ميداني” في نشرات الأخبار. يموت مئات الأطفال في غزة، في السودان، في اليمن، ثم يُقال: “تجدد الاشتباكات”. يُقصف المستشفى، فنُسميه “خطأ غير مقصود”. يُعتقل الآلاف بلا تهمة، فنقول “إجراءات أمنية”. لقد تواطأنا جميعًا، بدرجات متفاوتة، على تفريغ اللغة من معناها، وعلى جعل المأساة مقبولة طالما أن وقعها الصوتي صار مألوفًا.

في ظل هذا الانحدار، هل من المفاجئ أن تتحول الصحافة – التي وُلدت لتكون سلطة أخلاقية رابعة – إلى وسيط مشلول أو متواطئ؟ كم من غرف الأخبار باتت تدير الأزمات بمنطق السوق؟ كم من القنوات تُحدد زاوية التغطية بناءً على هوية الضحية، لا على فداحة الجريمة؟ كم من الصحفيين حوّلوا الكارثة إلى “فرصة مهنية”؟ كم منهم أصبحوا جزءًا من ماكينة التعليب البشري التي لا ترى في الإنسان سوى مادة قابلة للتداول؟


لكن، رغم ذلك، لا يمكننا أن نعمّم. لا تزال هناك مساحات صغيرة، ضيقة كالأمل، يُمارس فيها الصحفيون عملهم كمهمة وجودية، لا كمهنة. لا يزال هناك من ينقل صوت الضحية، لا لابتزاز العاطفة، بل لاستعادة المعنى. لا يزال هناك من يكتب وهو يعلم أنه بذلك يعرّض نفسه للخطر، لكنه يكتب لأنه قرر ألا يصمت، لأن الصمت أخطر. أولئك لا يحتلون الشاشات، لكنهم يحفرون في الوجدان.

الإنسانية في الصحافة ليست مجرد مصطلح أخلاقي، بل بوصلة تحدد أين تقف: مع السلطة أم مع الحقيقة؟ مع القاتل أم مع من يُقتل؟ مع الرواية الرسمية أم مع الوجوه التي لم تُروَ حكايتها؟ ليست مهنة الصحفي أن يوثق فقط، بل أن يُربك الرواية المُعلّبة، أن يُزعج الصمت العالمي، أن يجرّح الضمير المستكين.


والمفارقة أن الإنسانية لا تحتاج إلى جهد خارق، بل إلى شجاعة بسيطة: أن ترى الإنسان كما هو، لا كما يُراد لك أن تراه. أن ترفض تصنيف الضحايا. أن تضع نفسك مكانهم، لا فوقهم. أن تعتبر كرامة جسد غريب تُمزّقه القنابل أهم من سردية تبريرية تُقنعك بأن هذا القتل ضروري. أن تكتب لا فقط لتخبر، بل لتقول: “هذا لا يجب أن يحدث”. أن تقول: “أنا مسؤول”، حتى إن لم تكن أنت الفاعل.

إننا نعيش اليوم أخطر أنواع الخسارات: خسارة المعنى. لقد صار بإمكانك أن تقتل، وتُبرر، وتكمل يومك بشكل طبيعي. أن تُسحق مدينة، وتُنقل مجرياتها كأنها مباراة كرة. أن يختفي آلاف المعتقلين، دون أن يشعر أحد بثقل الغياب. هذا هو السقوط الأخلاقي الذي لا تُعوضه أي حضارة.

ربما، في هذا الظلام، تبدو الإنسانية وكأنها صرخة بلا صدى. لكنها تظل، رغم كل شيء، الفعل الأكثر راديكالية. أن تؤمن بها، أن تدافع عنها، أن تكتب باسمها، يعني أنك لم تُهزم بالكامل بعد. في زمن القسوة المنظّمة، تصبح الرحمة تمرّدًا. وفي عصر الشاشات المتخمة بالألم المنزوع من سياقه، يصبح الصدق فعلاً ثوريًا.


الإنسانية ليست حلمًا طوباويًا. إنها التزام واقعي، شديد الصعوبة، لكن لا غنى عنه. لأنها الخط الفاصل بين أن نكون بشرًا أو أن نصبح آلات تُبرمج على الصمت، على الإنكار، على التغاضي. وحين تنهار الإنسانية، لا ينهار الضحايا وحدهم، بل نحن جميعًا، ككائنات خسرَت قدرتها على الاعتراف، وعلى الغضب، وعلى الحزن. وفي لحظة الصمت الكبرى التي يعيشها هذا العالم، يكفي أن يظل هناك من يكتب، لا ليُعزي، بل ليذكّر: أن الإنسان ليس خبراً، وليس رقماً، وليس فائضًا عن الحاجة. الإنسان هو المعنى. وكل شيء بعده، تفاصيل.

شارك

مقالات ذات صلة