Search

Close this search box.

سياسة

من المختار إلى مقاتلي “سطح” جباليا: عندما يكون المحتل أحمقَ!

يونيو 2, 2024

من المختار إلى مقاتلي “سطح” جباليا: عندما يكون المحتل أحمقَ!

سبتمبر 1931

 

صباح يوم الأربعاء، أتوْا به، وحشدوا 2 ألفًا من الأهالي والمعتقلين السياسيين ليشهدوا على إعدام قائدهم، أشغلوا السماء بطائرات تحلق على ارتفاع منخفض حتى يخفي أزيزها أىَّ كلمات أخيرة قد يقولها، يبكي الرجال قائدهم وهو يسير بشموخ نحو المشنقة، يضرب الجنود الإيطاليون من يبكي، لكنهم لم يمنعوا الدموع عندما تدلى الرجل من مشنقته. الصمت خيم على المشهد كما أراد الإيطاليون، قبل أن تُفسد فاطمة العباري اللوحة التي أرادها المحتلون، وهي تزغرد وتصرخ بالبيت الشهير:

“حي هابا وحية أمرار.. على الباشا ريس الأدوار”

 

لينفجر الحضور بالبكاء والتكبير، ويتحول ما أراده الإيطاليون من درس بليغ لليبيين ولكسر نفوسهم، إلى مظاهرة أججت الغضب وليتحول مشهد شنق المختار العلني إلى سبب جديد لتجنيد المزيد من الثوار ولتتحقق أمنية “سيدي عمر” ويعيش أطول “بكثير” من عمر شانقه.

يونيو 1930

 

كعادة المحتل مهما بدا ذكيًا، فهو قاصر في فهم الشعب الذي يحتله. العقوبات الفردية لا تؤثر، فيتحرك للعقوبات الجماعية التي تزيد الغضب هي الأخرى، فيلجأ للحل الأخير “الإعدامات الجماعية”. قبل إعدام الإيطاليين عمر المختار بعام واحد، قام الإنجليز بمحاولة قمع “ثورة البراق” التي أطلقها الفلسطينيون دفاعًا عن المسجد الأقصى أمام مخططات التهويد، وقف الفلسطينيون بصدورهم العارية في وجه عصابات القادمين من أوروبا الراغبين في تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى. سلطات الانتداب البريطاني حاولت إنهاء الثورة عبر الطريقة التقليدية وأصدرت أحكامًا بإعدام ٣ من قادتها، محمد جمجوم، فؤاد حجازي، وعطا الزير. الإعدامات سبقها تخفيف للأحكام عن آخرين، ورضوخ بريطاني لمطالب الثورة، لكنهم أصروا على إعدام الثلاثة بذات حجة الإعدام العلني للمختار: تحويل المشهد إلى عبرة لمن يعتبر، ودرس لمن يفهم، من يقف أمامنا سيكون هذا مصيره.

الشبان الثلاثة واجهوا الإعدام برأس مرفوع، سُمح للثلاثة أن يكتبوا رسالة في اليوم السابق للإعدام، كتب الشهيد فؤاد حجازي وصية جماعية وأمهرها بتوقيع ثلاثتهم وأرسلها إلى إحدى الصحف المحلية بخط يده، ونُشرت في اليوم التالي لإعدامهم، وجاء فيها:

 

 “رجاؤنا إلى الأمة العربية في فلسطين ألا تنسى دماءنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة، وأن تذكر أننا قدمنا عن طيب خاطر، أنفسنا وجماجمنا لتكون أساسًا لبناء استقلال أمتنا وحريتها”.

 

وفي يوم الإعدام وطبقًا للشهادات، تزاحم الثلاثة على الموت، وكان من المفترض أن يُعدم عطا الزير أولًا، لكن محمد جمجوم سابقه ليأخد دوره، وكان له ما أراد، وأُعدم الثلاثة، وصدحت المساجد بالأذان، وهب الشعب الفلسطيني في وجه الانتداب وسُمي يوم شنقهم بالثلاثاء الأحمر، وخلدتهم مرثية نوح إبراهيم الشهيرة:

كانوا ثلاثة رجال.. تسابقوا ع الموت

أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد

وصاروا مَثل يا خال.. صاروا مَثل يا خال.

 

 ولئن كان شنق ثلاثتهم تسبب في اندلاع احتجاجات أكبر تلت، وأضحى ذكرهم خالدًا ودليلًا أن الشنق لا يقتل بالضرورة، وأن فناء جسد الثائر لا يعنى أن ثورته ستضل طريقها، وهذا ما حدث مجددًا بعد 93 عامًا في المشهد التالي:

 

ديسمبر 2023

 

كما حلق الإيطاليون بطائراتهم على ارتفاعات منخفضة للتشويش على كلمات عمر المختار الأخيرة، فعل الإسرائيليون ذات الشيء ولكن بصورة مختلفة، أتوا بطائراتهم المسيرة لتلتقط اللحظات الأخيرة لمقاتلين ثائرين، أحدهم اختار أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ساجدًا، ضابط إسرائيلي ما، أطلق ضحكات وصفق بسعادة وهو يشاهد هذه اللقطات، وقرر سريعًا بدون تفكير أن ينشر المشهد، كلحظة انتصار، لأنه كان يرى فيه وجاهة مادية تقضي بأن الفلسطيني قُتل، والآلة الإسرائيلية انتصرت عليه، المشهد صار أمثولة والمعنى انعكس، الملايين دمعوا مع الساجد ليس فقط حزنًا عليه، ولكن إيمانًا بدربه، واعتبروا المشهد دليلًا جديدًا على صدق المسار الذي اختاره المقاتل الذي شاهدوه من الأعلى كما شاهده الإسرائيلي نفسه، لكن لكلٍ طريقته في التفسير.

مايو 2024

 

بعد أقل من ٦ أشهر على خطأ الضابط الإسرائيلي في نشر “لحظة انتصار” تحولت للحظة هزيمة، وفي معركة أراد الإسرائيليون لها أن تكون أخيرة في شمال غزة، ضابط إسرائيلي آخر صرح لهآرتس أن تكتيكات الفلسطينيين اختلفت، وبيان للجيش قال إن أكثر من 150 قذيفة صاروخية أُطلقت عليهم في أول خمس أيام فقط من التوغل في مخيم جباليا!

 

في ظل هذا الواقع داخل “معسكر جباليا”، الذي يحب أهله أن يسموه معسكرًا لا مخيمًا، فهو لم يعد خيمة، وهم مقاتلون لا لاجئين، وفي أثناء اشتباك ضمن مئات الاشتباكات التي وقعت في المعسكر أثناء تقدم الآليات، اشتبك أحد المقاتلين الفلسطينيين في “بلوك 2” مع قوة متقدمة. لا نعلم المشهد الأول، ولا الثاني، ولكن نعلم المشهد الأخير، يتسارع الشريط مجددًا، وتضبط الطائرة المسيرة عدستها وهي تلتقط المقطع الذي سيقف عنده كثيرون، لمقاتل يعرج من إصابته لكنه يتجه لحافة السطح، يطلق الرصاص ثم يُمطر بعشرات الرصاصات مختلفة الأعيرة، حتى سقط، يأتي من ورائه من يمسك ذات السلاح، يرفعه ويسرع للحافة هو الآخر ليلقى مصير رفيقه، ليجسد بالحرف ما كتبه محمود درويش أثناء حصار بيروت عن المقاتلين الذين لم يجدوا سلاحًا، وعن المقاتل الذي لم يجد إلا رفيقه الشهيد ليضرب به المحتل، لتتكرر أمثولة “الثلاثة المتسابقين على الموت، والذين صاروا مثلًا يا خال!”

حاصر حصارك لا مفر..

اضرب عدوك لا مفر..

سقطت ذراعك فالتقطها

وسقطت قربك فالتقطني

واضرب عدوك بي

فأنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ

حاصر حصارك بالجنون وبالجنون

ذهب الذين تحبهم.. ذهبوا

فإما أن تكون

أو لا.. لا تكون

الضابط الإسرائيلي مع لعبته الطائرة، تهللت أساريره مجددًا وهو يشاهد مقاتليْن فلسطينيَّيْن يسقطان بعشرات الرصاصات إن لم يكن بالمئات، واختار أن ينشر، كالعادة، المشهد الأخير فقط من المعركة، صورة المقاتلين تبدو ضئيلة من الأعلى، كان يتمنى أن تقترب الطائرة أكثر فيرى لحظاتهما الأخيرة بوضوح، وآثار الدماء المتفجرة منهما، لكنه يعرف أن الطائرة ترتعد مثل أصحابها، ينشر المقطع سريعًا ليكرر خطأ الضابط الآخر.

 

مشهد الهزيمة هو مشهد تجنيد، وهو أخطر ما يكون لهذه المستعمرة، مشهد “الإنجاز” لهم هو مشهد التمجيد بالنسبة لأعدائهم، حدث هذا مع المختار، وحدث مع جمجوم ورفاقه، والمقاتل الساجد، ومقاتلي السطح، وما أراده الضابط/ المحتل أن يكون عبرة صار مثلًا، أو كما قال نوح إبراهيم “صاروا مَثل يا خال”.

 

 

شارك

مقالات ذات صلة