سياسة
حافظت الإدارة السورية على استمرارية عمل المؤسسات بعد سقوط النظام، لتجنّب إحداث فراغ يؤثر على المصلحة العامة للمواطنين وتقديم صورة إيجابية عن انسيابية استلام المؤسسات دون حدوث أخطاء تتأثر بها عامة الناس، واستمرت على ما هي عليه في بداية الأمر، لكن عند أخذ الإدارة السورية زمام الأمور والبحث في أروقتها صُدمت بوجود حالة ترهل إداري كبير، وفساد ينخر عظم المؤسسات، ووجود قوائم بأسماء موظفين يتقاضون معاشاً شهرياً دون وجود فعلي لهم وانعدام الالتزام بساعات الدوام، على أساس قربهم/ ارتباطهم الأمني أو الأيديولوجي بالنظام المخلوع، في سرقة دورية واضحة من ميزانية الدولة، وبناءً على البيانات والمعطيات الواردة وضعت الوزارات آليات للتعامل مع هذه التعقيدات المعمّمة، وبدأت بإجراء مقابلات مع الموظفين في المؤسسات التي تتبع لكل وزارة على حدة، لفلترة الموظفين ونخب الفاعلين منهم والاستغناء عن غيرهم.
صدرت قرارات كثيرة تتضمن قوائم كبيرة بأسماء الموظفين الذين مُنحوا إجازة مأجورة لمدة 3 أشهر، تمهيداً لفصلهم من المؤسسات، وتستند القرارات إلى معايير وضعتها اللجان لتقييم الأداء الفردي لكل شخص حتّى لا يكون العزل عشوائياً، وسرعان ما بدأت الحملات الرقمية ضد الإدارة السورية، للمتاجرة بالمظلومية واستعطاف الرأي العام وتصوير الثورة السورية بأنها تعيد إنتاج الاستبداد والتسلط بأسلوب منمّق، فهل هي كذلك؟.
لا يقتصر العزل الوظيفي على الفساد المهني والإداري، بل يصل إلى مخاطر أمنية تتجسّد بالتركيبة التي هندسها النظام المخلوع في الدوائر والمؤسسات، ويتوجّب تفكيكها وتحليل الارتباطات وأرشفتها في سجلات المباحث، وانطلق من هذه المخاطر التي ترسم هرم الأولويات للمقارنة بين اختراق تنظيم فتح الله غولن للمؤسسات في تركيا، وكانت جزءاً مهماً من عملية الانقلاب على الديمقراطية، وبين تجربة اجتثاث البعث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عقب الغزو الأمريكي.
بعد فشل محاولة الانقلاب في تركيا، صدرت أوامر باعتقال مئات الموظفين، بينهم موظفون في مفاصل حسّاسة، وإحالتهم للتحقيق، وكانوا على ارتباط بتنظيم فتح الله غولن، وتطورت تبعات الإجراءات لفصل عشرات الآلاف من الموظفين في عموم مؤسسات الدولة، وكانوا على تنسيق وتواصل مباشر مع التنظيم عبر تطبيق مشفّر، وقد اتخذت الدولة إجراءات حاسمة بهذا الخصوص، لأن ميدان السياسة لا يعرف العواطف والمشاعر الوردية والحديث بالمثاليات عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، وكان اختراق المؤسسات تمهيداً لمحاولة انقلاب الجيش على مؤسسات الدولة.
لكن الحالة السورية استثنائية ولها خصوصيتها تبعاً لاختلاف الظروف والمعطيات، إذ شهدت تدمير جيش النظام المخلوع، وحل مكانه جيش تطوعي احترافي كُتب لمقاتليه أن يكونوا من رجال الثورة المنتصرين، ورجال الدولة البنّائين، لذلك تذهب المخاطر في منحى استخباراتي بعيداً عن محاولات الانقلاب، ولعلّ أبرز الدوافع التي تصحب هذه الشريحة من المجتمع إلى عرض خدماتهم على أجهزة استخبارات لدول معادية للشعب السوري، هي الحاجة للمال لا سيما مع التفقير الممنهج الذي مارسه النظام المخلوع ضد المجتمع، والشعور بالمظلومية والتعطش للانتقام من الإدارة الجديدة بعد خسارة امتيازات وصلاحيات مُنحت من النظام المخلوع على أساس الولاء، والاختلاف مع الدولة على أساس أيديولوجي.
تساعد عوامل إضافية في تسهيل عملية التجنيد الاستخباري، أبرزها هروب كبار الضباط خارج سوريا وهذا يعني وجود قيادة مركزية يمكن أن تشغل هؤلاء لضرب استقرار البلاد وتوكيلهم باستقطاب من يشبههم لتشكيل شبكات معقدة من العملاء، وتدرك الإدارة السورية حجم المخاطر ونوايا خصومها وأعدائها الذين يحاولون تفشيلها عبثاً، وتتحرك على هذا الأساس، لتبدأ هنا خطابات المظلومية وطلبات الحماية الدولية والتجييش والتحريض الطائفي، والسعي لشيطنة الدولة عبر حملات رقمية ممنهجة ومتواترة، والتي أعلن الرئيس أحمد الشرع فشلها ضمناً، عندما جالس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الرقم الصعب في عالم السياسة، وكانت لحظة المصافحة بمثابة فتح أبواب العلاقات السورية الأمريكية، وصوّرته حدثاً تاريخياً، رغم أنف الكارهين.
على هذا الصعيد، لا يحدثك الناشطون المتأثرون بالتجارب الأوروبية عن تجربة الثورة الفرنسية التي لم ترحم مقاصلها أحد عندما انتصرت، ويكتفون ببثّ خطابات المظلومية والحديث بمثالية مغلفة باسم الرحمة والإنسانية وينساقون وراء الحملات الرقمية المعادية، بسبب قرارات اتّخذتها الإدارة حفاظاً على وجود مجتمع آمن يدعم عملية البناء، ولا يكون معولاً للهدم والخراب خلالها.
في ضفة ثانية، يخشى البعض من عواقب استنساخ تجربة “اجتثاث البعث” في العراق، ودفع آلاف المفصولين إلى احتجاجات ضد الدولة السورية أن تؤثّر سلباً على المرحلة الانتقالية، بسبب الشعور بالإقصاء والتهميش، لكن المقارنة هنا بعيدة عن المنطق إلى حد ما، إذ إن غياب قدرة الطائفة الحاضنة للنظام على إحداث أي تغيير أو خلق اضطرابات جديدة، يعود إلى سحقها من النظام المخلوع بالتجويع والتفقير، ونفاد طاقتها التي استهلكها النظام خلال 144 سنة، وجعل من نفسه كومة قش يتعلق بها هؤلاء الغرقى الذين أدخل شبابهم في محرقة مستمرة لسنوات طويلة وفقدوا الآلاف منهم، وبُترت أطراف آخرين وأصبحوا عاجزين يجرّون وراءهم الحسرة والندامة، ومنهم من هرب من المحرقة وصار مشرداً في دول شتّى، ومن نجى بطشت به الدولة السورية يوم محاولة التمرّد المسلح في الساحل بطشة أعجزته عن الانتقام، وجعلته عبرة لكل من تسول له نفسه تهديد الأمن القومي، وهنا، حتّى الناجي الوحيد لم يعد كذلك.
إن التغيير يحتاج للشباب، رأس الحربة بالحماس والاندفاع والغضب، ومن أخذته العزّة بالإثم، وبما سبق، وحاول أن يتمرّد في الساحل، لقي مصيره، وترك خلفه إحباطاً وعجزاً يفتكان بباقي المجتمع الذي انتظر نجاح التمرّد، وانصدم بتشييد أركان الدولة الجديدة.
فروع نقابة المحامين في سوريا أوّل من تجاوب مع متطلبات المرحلة، وفتحت باب استقبال الشكاوى المسلكية من المدنيين المتضررين من سلوكات المحامين خلال الثورة السورية، فبعد سقوط النظام تكشّفت حقائق كثيرة، أولها تورط المحامين المحسوبين على النظام المخلوع بتزوير عقود بيع لعقارات المهجرين والملاحقين من النظام في سوريا، في مساهمة واضحة بتعزيز عمليات التهجير القسري والتغيير الديمغرافي، وتشكيل شبكات نصب واحتيال ضحيتها أهالي المعتقلين.
إن استنساخ تجربة نقابة المحامين وتعميمها على باقي النقابات، وخلق حالة تفاعل بينها وبين المجتمع، لإنصاف المتضررين وشطب قيد المشاركين بالحرب على الشعب السوري بغرض تطهير النقابات من الفاسدين وتجريدهم من صفة “الأكاديمي” التي يتستّرون بها على انتهاكاتهم زوراً وبهتاناً، يشكل جزءاً مهماً من مسار العدالة الانتقالية تحت مظلة القانون، و بالتالي الابتعاد عن دفع الناس لعدالة انتقامية انتقائية، وضمان عدم الإفلات من العقاب، والوصول إلى حلقة ثلاثية تتكامل في صناعة الأمن القومي.
الإلغاء يعقبه فراغ، والفراغ يحتاج إلى بديل، وخير بديل الشباب الصّاعد الذي اشتدّ عوده وكسب خبرات في الشمال السوري ودول اللجوء، وفي مقدمتها تركيا، فالقسم الأول أكثر واقعية وقدرة على إدارة الأزمات بحكم الأمر الواقع والصعوبات التي عايشها ونفت عنه الترف والرفاهية وأنجز في بيئة قاسية أنتجت كوادراً تحمل شهادات جامعية محترمة نالت اعترافها بالحسم العسكري، والثاني حاز شهادات الماجستير والدكتوراه من جامعات عريقة في الخارج، ويستحق أن يُمنح فرصة لنقل خبرته إلى الجامعات السورية بدلاً من الكوادر المتهالكة التي تورطت بالتخابر مع الأفرع الأمنية وتسليم الطلاب الثائرين لها وتحويل اتحاد طلبة سوريا إلى أداة للقمع والتشبيح، ونشر الفساد في الجامعات والتوجه نحو بيع الأسئلة الامتحانية.
إن البلاد أمام فرصة كبيرة لبناء مؤسّسات ونقابات وجامعات عريقة خالية من فلول النظام، وضخّ دماء جديدة فيها واستقطاب الخبرات التي بُنيت في الخارج وتمكين الشباب الوطنيّين الذين يحرصون على البناء ويطمحون لرفع راية سوريا الجديدة في المحافل الدولية.
تنفيذ الآليّات المذكورة في هذا المقال تعد أقلّ الواجب لإنصاف الضحايا وإنزال أشد العقوبات ضد المتورطين بالحرب على الشعب السوري، وقد خاب من وقف ضد الشعب يوماً، فالذاكرة عتاد الثائرين والثائر لا ينسى حقوقه ولا تسقط عنده بالتقادم ويعرف كيف ينتزعها بسيف الدولة، وهذا لا يتعارض مع مفهوم السلم الأهلي الذي يوظّف في غير موضعه بشكلٍ خاطئ في أحيانٍ كثيرة، وأثق بقدرة الدولة السورية على التّفريق بين المجرمين والمتورطين بالانتهاكات، وبين المجتمع الذي وجد نفسه تحت حكم النظام المخلوع وتأثّر به بشكل أو بآخر، وبنى في كنفه مفاهيم خاطئة وتعرّض لتثقيف سلبي ممنهج، وهو بحاجة لبناء ذاكرة جماعية من الصفر وتوعيته بالحقائق التي غُيّب عنها قسراً، وإصلاح ما أفسده النظام المخلوع، تمهيداً لإعادة دمجهم مع الباقين على المدى الطويل.