أدب

حكايات نجيب محفوظ عن الكتابة (2)

حكايات نجيب محفوظ عن الكتابة (2)

نستمر في عرض ذكريات نجيب محفوظ عن الكتابة، حيث جمع الكاتب عمرو فتحي شهادات محفوظ حول الكتابة، في الصيف كان نجيب كثيرًا ما يمشي على النيل في القاهرة أو على شاطئ البحر في الإسكندرية، وكان يعتاد أن تجيئه بعض الأفكار لكتابات كان يختزنها ليعود إليها مع حلول فصل الخريف حيث كان يعود مرة أخرى للكتابة، وكانت الأفكار تبقى معه حتى يعود إلى الكتابة أو تهرب ولا يصبح قادرًا على استعادتها مرة أخرى.


من أين يستمد نجيب محفوظ شخصيات رواياته؟

يصرح نجيب محفوظ بالعديد من الملاحظات عن نظرته للبشر في الروايات، حيث يقول: “كل الشخصيات التي قدمتها وفيها شيء من الشر، كان اتهامي للظروف المحيطة بها وليس لها، لم أقدم شخصية بشكل يجعل القارئ يكرهها، لا تغيب عني أبدا الجوانب المضيئة من الشخصية، مهما كانت بشاعة الجوانب الأخرى. أنا لا أكره الناس، ولكنني أفهمهم على حقيقتهم في واقعهم القاسي، أحبهم في واقعهم”.

ويكشف نجيب محفوظ في الكتاب أن كل شخصية ولها أصل واقعي، فمن هذا التفصيل الصغير يمكن للروائي أن يبني حياة كاملة، ويضيف من عنده ما يناسب كتبه ولا يتعرف الناس على أنفسهم في العمل الروائي. وكثيرًا ما يقرأ الأشخاص الذين كتب عنهم نجيب محفوظ في كتبه ولا يتعرفون على أنفسهم، ولو تعرفوا عليهم لكانت “الوقعة وحشة” فالمصير الروائي يختلف عن المصير الحقيقي، وينتبه الروائي نجيب محفوظ إلى أن الناس لا تحب أن يكشف أحد أسرارها، والسيرة الذاتية نوع من كشف أسرار الآخرين، أنت لم تستأذنيهم في ذلك، وهم لم يسمحوا به.

أما أحب شخصيات رواياته إليه فهو السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية بسبب حبه للحياة ولصداقاته وللناس، سي السيد جامع في تكوينه بين الدنيا والدين مرهف وقوي العاطفة، جمعه محفوظ من أكثر من شخصية حية من الواقع، ولكنه تحول إلى شخص حي محبب ومثير للعواطف والتساؤل في وقت واحد، ونجيب يوضح أنه كتب الثلاثية، وهو في عنفوانه، صبور، جلود، عمل كهذا كان يحتاج إلى صبر، إلى صحة، لقد كتبها وخططها في أرشيف ضخم، حيث يخطط لكل شخصية، ولكل شخصية ما يشبه الملف حتى لا ينسى الملامح والصفات، خاصة إن نجيب محفوظ يعمل في كل سنة من أكتوبر إلى أبريل فقط، بسبب مرض الحساسية الذي يصيب عينه، كتب نجيب الثلاثية في أكثر من أربع سنوات، بدقة بهدوء وبتأن تحدوه الرغبة أن ينهي شيئا جيدًا.


ونجيب معجب أيضًا بشخصيتين: زهرة في روايته “ميرامار” والست المهدية في “الباقي من الزمن ساعة”. وزهرة هي رمز لمصر، لكن نجيب محفوظ تعجب ان النقاد رأوا في حميدة بطلة رواية “زقاق المدق” رمزًا لمصر، ولكن نجيب لم يقصد مطلقًا شيئا من ذلك النوع، أما الفتوة فهو يستعمله عموما كغطاء لمعان أخرى، ترى في روايته “الحرافيش” كلها فتوات، هي فتوات وليست فتوات هي شخصية غنية، تستطيع تمثل فيها الحاكم أو الغازي أو المستبد.

يكشف الكتاب إن هناك قيما معينة ترسبت في وجدان محفوظ، وأحبها طول حياته، ولذلك فلا بد أن يدافع في أعماله عنها. أهم هذه القيم التي يذكرها: هي العدالة الاجتماعية تحت أي اسم، فهي قيمة لا يمكن أن تنفصل عن ضميره، وهناك قيم أخرى تلح عليه دائما كالحرية والحقيقة والعلم. فلا يتصور نجيب أن هناك رواية من رواياته تخلو من الدعوة إليها أو على الأقل لا تدعو إلى عكسها. كان نجيب محفوظ دائما موظفا حكوميا، بل إنه على العكس كان ينفق على الأدب، على الكتب والورق، لم يحقق مالا من الكتابة إلا بعد وقت كبير. نشر حوالي ثمانين قصة بلا مقابل، حتى رواياته الأولى نشرها بلا أي مقابل.

 

أحمد عاطف في خان الخليلي

يتضح لنا من الكتاب، كيف يستلهم الروائي شخصياته من الواقع، ويقدم على ذلك أمثلة عديدة، مثلا في رواية “خان الخليلي” يصور نجيب محفوظ الأجواء الشعبية في حي سيدنا الحسين: التقاليد والأغاني والعادات، وتتحرك هذه الرواية أساسًا حول شخصية أحمد عاكف وإبراز ملامحه الوجدانية، وتزدحم هذه الرواية بالتحليل والتفصيل في إطار زمني محدد من يناير 1942 إلى 30 مايو من نفس السنة، بطل «خان الخليلي» كان زميلا لنجيب محفوظ في إدارة الجامعة، واسمه أحمد عاكف، وقد جاء يشكر نجيب بعد قراءته للرواية، واعتبرها دليلًا محبة نجيب له للدرجة التي جعله كاتبنا يطلق اسمه على بطل الرواية، والإبقاء على اسم أحمد عاكف كما هو كان تحديًا من نجيب محفوظ لأنه يغير في الشخصية ومصيرها للدرجة التي تجعل صاحب الشخصية لا يعرفها، وشخصية أحمد عاكف في «خان الخليلي» بها الكثير من ملامح الشخصية الحقيقية، ولكنه عاكف الأصلي لم يكن يشعر بها، ومن هذه الملامح الأساسية: غروره الكاذب، ولأن أحدًا لا يعترف بأن لديه غرورا كاذبا فإن نجيب محفوظ كان مطمئنا وهو يضع اسمه للرواية من أن الأمر لا يحمل أي خطر.

كان أحمد عاكف أعلى من نجيب محفوظ وظيفيا، ويذكر أنه تم تكليفه بتأسيس إدارة جامعة الإسكندرية عند إنشائها، وكان أول مدير لجامعة الإسكندرية (جامعة فاروق الأول في ذلك الوقت هو الدكتور طه حسين). وقد كتب أحمد عاكف إحدى الرسائل، فأدخل عليها الدكتور طه حسين بعض التعديل، فثار أحمد عاكف ودخل وهو نصف مجنون على طه حسين مستنكرًا أي تعديل على ما يكتبه قائلا له: أنا لا أقل عن أي أحد منكم. فرد طه حسين: إن هذا شيء يسعدنا جدا، واتصل بالقاهرة ونقله فورا. لم يستمر أحمد عاكف في جامعة الإسكندرية بضعة أيام، وكانت خسارة كبيرة له، وضيع عليه غروره الكاذب وظيفة السكرتير المساعد لإدارة جامعة الإسكندرية والتي كانت تعني حصوله على رتبة البكوية.

 

بطل رواية القاهرة الجديدة واقعي

عمل نجيب محفوظ في وزارة الأوقاف ومجلس النواب وإدارة الجامعة، وفي إدارة الجامعة اصطدم بنماذج بشري أخرى، فبطل رواية “القاهرة الجديدة” عرفه نجيب وهو طالب وتتبعه إلى أن حصل على وظيفة، ولكن سقوطه بدأ وهو طالب. كانت الرواية كشفًا وتعرية غير معقولة، ويذكر نجيب محفوظ أن الشيخ سيد، وكان يعمل في وزارة الأوقاف، قال له إن الناس منزعجة، هل ما تكتبه حقيقة؟ لقد كان الشيخ سيد شقيق طه حسين، وتعلق نجيب محفوظ في اسم طه وقال إنه يفعل مثلما فعل الدكتور طه، ورواية القاهرة الجديدة كشفت فضائح وزراء ومسؤولين فجاء الرقيب وألغى أحد فصولها.

 

أصل بطل رواية الكرنك

حكايات عن رواية الكرنك من كتاب نجيب محفوظ “عن الكتابة” جمع وتحرير عمرو فتحي الذي ضم نصوصا مميزة عن تفاصيل رحلة نجيب محفوظ والكتابة، يقول نجيب محفوظ عن روايته التي تحدثت عن السجون: “هذه الرواية أدانت شيئًا واحدا في الفترة الناصرية، وهو الإرهاب، وهي ليست جديدة بالنسبة لأعمالي، فهي استمرار لـ “ميرامار” و “ثرثرة فوق النيل” ولعشرات القصص القصيرة التي جمعت في “تحت المظلة” و”شهر العسل” و”حكاية بلا بداية ولا نهاية” وغيرها في مجاميع أخرى. يعني أنها تمثل الموقف الذي التزمته من ثورة يوليو منذ قيامها، وهو موقف المعارض البناء المنتمي، ولم يتغير بالنسبة لي. وأنا في عالم السياسة اتمسك بقيمتين هما الحرية والعدالة الاجتماعية. ليست الكرنك هجاء، ولكنها محاسبة للنفس.

ثم يوضح أن رواية أزعجت الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، فقد كانت الكرنك أكثر الروايات التي عانى نجيب محفوظ في نشرها، حيث قدمها إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل وبعد أن قرأها ظن أنها هجوم مباشر على عهد عبد الناصر، فحمل أصول الرواية وذهب إلى مكتب توفيق الحكيم يشكوه إليه، وقد حكى الحكيم لنجيب محفوظ استنكار هيكل لما جاء في الرواية وقال له: يرضيك كده، خد شوف نجيب باعت لي إيه؟”. …….. .

ويقول نجيب محفوظ أيضا عنها: “لقد ألفت رواية “الكرنك” في بداية عهد السادات، حينما كان نظام الحكم امتدادًا لنظام عبد الناصر. وبالمصادقة بدأ الهجوم على العهد الناصري بعد أقل من سنة، فاختلط الأمر على الناس وظنوا أن «الكرنك» جزء من هذه الحملة والحق أنني بريء من كل هذا.”

والقصة تبدأ في عام 1971، حينما اعتقل الكاتب سعيد الكفراوي، وعندما خرج ذهب إلى المقهى لمقابلة نجيب محفوظ، طبطب عليه نجيب وقال له: احكي يا كفراوي بالتفصيل، ولا تترك شيئاً، والحمد على سلامتك. بعدها كتب محفوظ رواية الكرنك عن المعتقلات، وقال نجيب له: “على فكرة يا كفراوي أنت إسماعيل الشيخ بطل الرواية”. كما يذكر سعيد الكفراوي في كتابه “حكايات عن ناس طيبين“.

 

بطل رواية السراب

يتضمن كتاب عن الكتابة شهادة كذلك عن رواية “السراب” وأصلها الواقعي، فالبطل كان رجلًا غنيا جدا ومستهترا جدا، ولم يكن له علاقة بالأدب أو القراءة. وكان هذا الرجل عزوفًا عن النساء، وكان يكره والده ويصفه بما وصفه نجيب محفوظ في الرواية، وجاء صديق مشترك وقال للشخصية الحقيقية على سبيل الفكاهة عارف الرواية الأخيرة لنجيب محفوظ؟ فقال له: “السراب“. قال له نعم، هذه قصتك، الرواية عنك أنت، ولم يكن الصديق قد قرأ هذه الرواية أو له علاقة بالأدب، فاعتبر أن نجيب كتب الرواية للإساءة به والتشنيع عليه، فهدد بقتل نجيب محفوظ، وتدخل الأصدقاء عندما وصلت المسألة إلى هذه المأساة، وكانت محنة مر بها الروائي، في تحويل شخصيات الواقع إلى شخصيات روائية.

 

رواية اللص والكلاب

رواية “اللص والكلاب” استوحاها نجيب من قصة حقيقية عن لص روع القاهرة لفترة، كان اسمه محمود سليمان، حين خرج من السجن حاول أن يقتل زوجته ومحاميه اللذين نجحا في الهروب من القتل، ولكنه هو تعرض للقتل في ثنايا ذلك، ابتكر نجيب محفوظ القصة من شخصيته، كان نجيب يعاني في ذلك الوقت بشعور من إحساس ضاغط ومستمر بأنه مطارد، وكان على قناعة بأن حياته في ظل النظام البوليسي في تلك المرحلة كانت بلا معنى، وهكذا حينما كتب نجيب القصة كتب معها قصته، وإذا بقصة جريمة بسيطة تصبح تأملا فلسفيا، فقد حمل الروائي شخصية الرواية الرئيسية سعيد مهران كل حيرته وهواجسه، جعله يمر بتجربة البحث عن إجابات، وهكذا يضفر الكاتب قصته بشكوكه وأسئلته وقيمه، حتى يكتب قطعة فنية.

هذه الشخصيات الواقعية التي حولها نجيب محفوظ إلى شخصيات روائية كما في رواياته الكرنك والسراب وخان الخليلي والقاهرة الجديدة واللص والكلاب وغيرها من روايات، تدل على كيف يعمل ذهن نجيب محفوظ في تحويل الشخصيات الواقعية إلى قطع فنية، حتى أنه قرر تحويل حياة الشاعر صلاح جاهين إلى نص روائي وكتب عنه في روايته قشتمر، مع بعثرة الحقائق وتغيير الأوصاف حتى لا يتعرف عليه القراء لكن بهاء ابن صلاح جاهين تعرف على والده في رواية قشتمر وأخبر نجيب محفوظ، وحتى إنه جسد شخصيات زميلاته في العمل، عندما كان يعمل في وزارة الأوقاف في رواية “المرايا“.

شارك

مقالات ذات صلة