مشاركات سوريا
– أسامة محمد
لعقود طويلة، شكّل نظام الأسد في سوريا نموذجاً صارخاً للاستبداد السياسي، حيث اعتمد سياسة قمعية منهجية لتثبيت دعائم حكمه وإسكات أي صوت معارض. هذه السياسة، التي امتدت من عهد حافظ الأسد إلى عهد بشار الأسد، لم تقتصر على القوة العسكرية والأمنية فحسب، بل شملت أيضاً بناء شبكة معقدة من السجون التي أصبحت رمزاً للرعب والقهر. سجون مثل صيدنايا، فرع فلسطين، فرع الخطيب، وسجن عدرا، ضمت مئات الآلاف من المعتقلين، ولا سيما أصحاب الرأي، الذين تجرؤوا على انتقاد النظام أو المطالبة بالإصلاح. في هذا المقال، نسلط الضوء على سياسة القمع التي اتبعها النظام، وكيف شكّلت السجون شاهداً حياً على وحشية هذا النظام الاستبدادي.
اعتمد نظام الأسد استراتيجية القمع ركيزة أساسية للحفاظ على السلطة، حيث عمل على ترسيخ ثقافة الخوف في المجتمع السوري. منذ تولي حافظ الأسد السلطة عام 1970، طوّر النظام جهازاً أمنياً متشعباً يراقب كل تحركات المواطنين، ويمنع أي شكل من أشكال التعبير الحر. كانت الأجهزة الأمنية، مثل المخابرات العسكرية والجوية، أداة النظام الرئيسة لتتبع المعارضين، سواء كانوا سياسيين، مثقفين، أو حتى مواطنين عاديين عبّروا عن آرائهم.
مع وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، توقّع البعض إصلاحات سياسية تفتح المجال للحريات العامة. لكن سرعان ما تبدّدت هذه الآمال مع استمرار سياسة القمع، التي تفاقمت خلال الثورة السورية عام 2011. أي محاولة للمعارضة، سواء عبر كتابة مقال، تنظيم مظاهرة سلمية، أو حتى منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، كانت تُقابل باعتقالات تعسفية، تعذيب، وحتى الإعدام في بعض الحالات. هذا النهج جعل المعارضة شبه مستحيلة، حيث بات المواطن السوري يعيش في ظل خوف دائم من “الجدران التي لها آذان”.
إذا كان هناك رمز لاستبداد نظام الأسد، فهو بلا شك سجونه التي تحوّلت إلى مصانع للقمع والتعذيب. هذه السجون، التي ضمت مئات الآلاف من المعتقلين على مدى عقود، كانت بمثابة أداة النظام لكسر إرادة المعارضين وإسكات أصوات الحرية. من أبرز هذه السجون:
سجن صيدنايا العسكري: الذي يُعرف بـ”المسلخ البشري”، وهو أحد أكثر السجون رعباً في العالم. شهادات الناجين منه تكشف عن عمليات تعذيب وحشية، إعدامات جماعية، وظروف احتجاز غير إنسانية. تقارير منظمات حقوق الإنسان تشير إلى أن عشرات الآلاف من المعتقلين قُتلوا في صيدنايا خلال سنوات الثورة، حيث كان النظام ينفذ أحكام الإعدام دون محاكمات عادلة.
فرع فلسطين: يقع في دمشق، وكان مركزاً رئيساً لاعتقال المعارضين السياسيين. شهد هذا الفرع عمليات تعذيب ممنهجة، حيث كان المعتقلون يُحرمون من أبسط الحقوق، مثل الطعام والرعاية الصحية. كما اشتهر الفرع باستخدام أساليب التعذيب النفسي والجسدي لانتزاع الاعترافات.
فرع الخطيب: يُعتبر أحد أكثر فروع المخابرات وحشية، حيث كان المعتقلون يتعرضون للتعذيب اليومي، بما في ذلك الصعق الكهربائي والضرب المبرح. كان هذا الفرع موجهاً بشكل خاص لقمع الناشطين والمثقفين.
سجن عدرا: رغم اختصاصه بالسجناء الجنائيين، أصبح وجهة للمعتقلين السياسيين، حيث شهد ظروفاً مزرية وانتهاكات مستمرة.
هذه السجون لم تكن مجرد أماكن لاحتجاز المعارضين، بل كانت أدوات لتدمير الإرادة الإنسانية، حيث كان الهدف هو إرسال رسالة واضحة لكل من يفكر في المعارضة: “إما الصمت أو الموت”.
سياسة القمع التي اتبعها نظام الأسد لم تقتصر على إسكات المعارضة، بل امتدت لتدمير النسيج الاجتماعي السوري. فقد أدت الاعتقالات التعسفية إلى تشريد عائلات بأكملها، حيث كان المعتقلون غالباً المعيلين الرئيسين لأسرهم. كما أن الخوف من الاعتقال جعل الكثيرين يتجنبون التعبير عن آرائهم، مما أدى إلى تراجع الحياة السياسية والثقافية في سوريا.
علاوة على ذلك، تسببت هذه السياسة في نزوح الملايين من السوريين إلى الخارج، هرباً من القمع والاضطهاد. هذا النزوح لم يؤثر فقط على السوريين أنفسهم، بل ألقى بظلاله على المنطقة والعالم، حيث أصبحت أزمة اللاجئين السوريين إحدى أكبر الأزمات الإنسانية في العصر الحديث.
مع سقوط نظام الأسد، أصبحت السجون شاهداً حياً على جرائمه. فتحُ أبواب صيدنايا وغيرها من السجون كشف حجم الانتهاكات التي ارتُكبت بحق المعتقلين، من تعذيب وقتل وتجويع. هذه السجون، التي كانت رمزاً للقمع، تحولت اليوم إلى دليل مادي يطالب بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
إن تحقيق العدالة لضحايا القمع يتطلب جهوداً دولية ومحلية لتوثيق الانتهاكات، ومحاكمة المتورطين، وتعويض الضحايا. كما يجب أن يكون هناك تركيز على إعادة بناء المجتمع السوري، من خلال تعزيز الحريات العامة وضمان عدم تكرار هذه التجربة القمعية.
سياسة القمع التي اتبعها نظام الأسد لم تكن مجرد أداة للبقاء في السلطة، بل كانت نظاماً متكاملاً لتدمير أي أمل بالتغيير أو الإصلاح. سجون الأسد، من صيدنايا إلى فرع فلسطين والخطيب وعدرا، ستبقى شاهدة على وحشية هذا النظام الذي حاول إسكات شعبه بالقوة. مع سقوط النظام، يأمل السوريون في فتح صفحة جديدة، تُحقق العدالة للضحايا، وتضمن بناء دولة تحترم حقوق الإنسان وتتيح الحرية للجميع. إن إرث القمع يجب أن يكون درساً للمستقبل، لضمان ألا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى.