مدونات
للكاتب: عدن سعيد
عن أيّ عيدٍ تتحدّثون، وحذاء طفلٍ في غزّة ما زال عالقًا بين أنقاض المدرسة؟
عن أيّ زينةٍ تكتبون منشوراتكم الملوّنة، وأنتم تعبرون فوق جثثٍ لا أسماء لها؟
أمِن أجل هذا، وُلدت الأعياد؟ كي نقول لأنفسنا إنّنا أحياء، بينما نخفي الموت في جيب المعطف؟
أعرف هذا العيد…
مرّ على مدنٍ كثيرة قبلكم، وقف على باب صبرا، وركع على رصيف شاتيلا، وتاه في جنين، وبكى في حلب، وتجوّل بين قباب بغداد، ثم قرّر أن يُغلق أبوابه حين رأى ما حدث في غزّة.
لا تسألوني عن المعنى.
المعنى بات قتيلاً، في غرفة الإنعاش.
كلّ ما في المشهد كاذب، حتى الفرح، حتى الموسيقى، حتى التكبيرات المُجلجلة التي لا تصل إلى السماء.
فالسماء مثقوبة منذ وقتٍ طويل، منذ أن صار الدعاء بديلاً عن الموقف، والموت خبرًا عاديًا في الشريط الأحمر.
غزّة لا تلبس الأبيض اليوم.
غزّة تلبس أكفانًا لم تُغسل.
تلبس رماد بيوتها، وغبار المساجد، وبقايا لعب الأطفال المحروقة.
غزّة لا تحتفل. لا تفتح بيتًا، ولا تذبح أضحية.
هي الذبيحة.
أجل، الذبيحة الوحيدة التي يمرّ حولها الناس في مواكب المتفرّجين، ويستعرضون رحمتهم الرقمية بكبسة زر.
أطفال غزّة لا يعرفون عن العيد سوى نكهة الإسمنت المحترق.
لا يملكون صورًا عائلية ليعلّقوها.
كلّ الصور امّحت مع البيوت.
ولا هدايا لديهم… بل أسماء.
أسماءٌ حُفرت على ألواح معدنية كي لا تُنسى حين يُعاد جمع الأشلاء.
هل أبدو غاضبًا؟
بل أنا كاتبٌ فقد كلّ مفردات التجميل.
أنا لا أكتب، بل أصرخ في وجوهكم.
أصرخ في وجه القهوة التي تُدار على الأهل صباح العيد، في وجه ملابس الأطفال الجديدة، في وجه الضحك غير المكترث على شرفات البيوت المكيّفة.
فلسطين لا تريد دموعكم.
دموعكم باردة، تتبخّر سريعًا.
تريد وقوفكم.
لا على صفحات التواصل، بل على جبهات الشرف، حيث لا صوت يعلو فوق صوت من قرّر أن يعيش واقفًا، أو يموت واقفًا، أو يظلّ واقفًا حتى تنكسر السكين.
أنتم لا تفهمون غزّة.
أنتم تخافونها.
لأنّها تُعرّي جبنكم، تُعرّي صمتكم، تُعرّي عجزكم الذي صار عادة.
غزّة لا تسأل عن المال، ولا عن قرارات القمم.
غزّة تسأل: أين كنتم حين قُصف أول بيت؟
حين فقدت أمّ ثلاثة أولاد؟
حين صار الليل مقبرةً تلد نهارًا أشدّ قسوة؟
أيّها الأصدقاء، لا تكتبوا لي: “كلّ عام وأنت بخير”.
لا أريد أن أكون بخير، بينما هناك من يُفنى كي أحيا في وهم الراحة.
لا تكتبوا لي عن الحبّ، ولا عن السكينة، ولا عن التصالح مع الذات.
هذه عبارات تُقال في مقاهي المساء. لا في زمن المذابح.
نحن لا نعيش أزمة وطن فقط.
نحن نعيش أزمة شرف.
نحن نشهد على انقراض المعنى، على احتضار الكلمة، على موت التاريخ.
نحن نبيع آخر ما تبقّى من ملامحنا كي نكسب لايكًا، أو إعجابًا من عالمٍ لا يحترم الضعفاء، ولا يفهم لغتنا.
غزّة لا تموت.
تتعثّر فقط… تسقط قليلًا، ثم تنهض كأنّها لم تنكسر.
غزّة تعرف كيف تحفظ روحها بين الركام، كيف تُخبّئ ذاكرة الجدّ في مصحفٍ قديم، وكيف تُعلّم الطفل أن يرسم علمًا من خيط قنبلة.
غزّة تعيش، لكنّنا نحن من نموت.
نحن نموت كلّ يوم حين نختار السلامة بدل الشرف.
حين نختار الكسل بدل الواجب.
حين ننسى.
النسيان ليس غفرانًا.
النسيان خيانة بيضاء.
اسألوا أنفسكم بصراحة:
ماذا فعلتم لغزّة؟
هل كتبتم اسمها؟
هل حفظتم أسماء شهدائها؟
هل رفعتم صوتكم، ولو مرّة واحدة، في وجه الظلم؟
لا تقولوا إنّكم عاجزون. أنتم فقط اخترتم الراحة. اخترتم النسيان.
اخترتم أن تناموا مطمئنّين، بينما قنبلة تنزل على بيتٍ يعرف الله أكثر من كلّ كتب الفقه.
عن أيّ عيدٍ تسألون؟
عن عيدٍ لا يصله خبز، ولا ماء، ولا هدنة؟
عن عيدٍ يجلس فيه الأيتام على الركام، ويقلبون في دفاترٍ محترقة، يبحثون عن أسماء إخوتهم؟
عن عيدٍ يُستقبل فيه الشهداء أكثر من الزوّار؟
اسألوا غزّة، إن كنتم صادقين.
اسألوها: هل مرّ العيد من هنا؟
وستجيبكم: العيد مرّ منذ زمنٍ طويل، ثم رأى ما لم يحتمله قلب، وغادر دون أن يودّع.

