سياسة
يشير مصطلح “الإسلاموية السياسية” في الأدبيات الاستشراقية إلى حركات الإسلام السياسي التي نشأت في العالم الإسلامي بعد إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك 1924، والتي كانت محاولة لإيجاد بديل مركزي للخلافة المنهارة أو إحيائها نفسها من جديد، شمل هذا المد الإسلاموي شبه القارة الهندية والشرق الأوسط مروراً بإيران الشيعية.
تميزت هذه الإسلاموية من وجهة نظر المستشرقين الغربيين بأنها عملت جاهدةً على تفسير الإسلام كـ “نظام سياسي للحكم” وتجسدت جماهير بحركات إسلامية ضخمة في العالم الإسلامي، أبرزها حركة “الإخوان المسلمين” المصرية وفروعها في بلدان إسلامية أخرى.
انطلاقاً من ثلاثينيات القرن الماضي، أسس حسن البنا حركة الإخوان المسلمين في مصر، بينما نهض أبو الأعلى المودودي بحزب الجماعة الإسلامية في باكستان، سعى الرجلان إلى إعادة تعريف الإسلام كنظام حكم ودولة على ضوء الأيديولوجيات الكبرى في القرن العشرين، في محاولة للعودة بالعالم الإسلامي لحالة من المركزية، عن طريق حزبية تحاكي في بعض وجوهها الحزبية الغربية في وقتها خصوصاً الفاشية، مبتعدين عن النموذج المشيخي آنذاك، والذي ما زال حاضراً حتى الآن في المجتمع الإسلامي، الذي ينأى رجاله عن السياسة إلا نادراً، ويكونون غالباً في كنف السلطة ورعايتها أو منزويين في زواياهم الصوفية، معتقدين أن تحقيق “الفضيلة” بالمنظور الإسلامي هو الحل لجميع مشكلات المجتمع.
عاصر الرجلان زمناً كان فيه الغرب في ذروة تصاعد نفوذه متمدداً باتجاه العالم الإسلامي فيما يُعرف تاريخياً بفترة الاستعمار، مدعوماً بحضارة متقدمة وقوة عسكرية واقتصادية، ليحرك الراكد في المجتمعات الإسلامية، ويثير أسئلة المستقبل والنهضة فيها، هذه المجتمعات التي عُرفت باستقرارها المشهود وثباتها اللافت طوال 14 قرناً، فيما يخص التدين ورؤية العالم ورؤية الآخر، بدا أن ذلك كله تزعزع مع تسرب المفاهيم الغربية وما صاحبها من تجليات اجتماعية في الثقافة والتعليم والسياسة التي أقلقت رجال الدين المسلمين.
لاحقاً وُظف هذا الثبات والاستقرار في دعم إيديولوجيات حركات الإسلام السياسي، القائمة على رفض الجديد القائم، بالتدليل المستمر على التاريخ العربي الإسلامي المشرق والذهبي، والتأكيد المستمر على أن هذا التاريخ لا بد أن يعود، متجاهلين في هذا التفكير حركة التقدم الإنساني خلال القرون الثلاثة الأخيرة والتي ترتب عليها نتائج بالغة الأثر شملت العالم ككل، إذ كانت الحضارة الغربية تخطو نحو المستقبل بخطوات كبيرة، فحتى القرن الـ17 كان الشرق يتمتع بقوة سياسية واقتصادية هائلة بفضل إمبراطوريات عملاقة، مثل الإمبراطورية الصينية والعثمانية والمغولية الهندية وحتى الصفوية، بينما كانت أوروبا مجتمعة كالقزم اقتصادياً وسياسياً أمام هذه الإمبراطوريات ذات الثقل السكاني والعسكري والتجاري الضخم، لينقلب الحال لاحقاً لصالح الغرب ويبدو الشرق خاوياً وفقيراً وضعيفاً.
في محاولة الرد على سؤال: لماذا انقلب حال المجتمع الإسلامي من الاستقرار والقوة إلى الدفاع اليائس عن النفس أمام الغرب الأوروبي سريعاً؟ يبدو هذا السؤال صعباً ومعقداً، وربما يحتاج إلى قرون أخرى لفهم تحولات القرون الماضية، وقد تصدى له الإسلام السياسي من خلال التأكيد على أن الإسلام هو الحل كنظام حكم ودولة إلى جانب كونه ديناً (الإسلام دين ودولة) ليبدو الإسلام السياسي رد فعل على التمدد الغربي، نمط دفاعي في وقت كانت فيه الحضارة الغربية الأوروبية تتغول بشكل غير متوقع ولا مفهوم بالنسبة للعالم الإسلامي الذي نظر إلى المجتمعات الأوروبية بكثير من التعالي سابقاً، عدم المعرفة بالتحول الهائل في أوروبا والجهل بمفاهيم الحضارة الحديثة، كان من أسباب هذه الفرقعة السياسية في العالم الإسلامي، والجهل بأشياء ظهرت حديثاً في الاقتصاد والمجتمع والثقافة عند الأوروبيين كالبنوك
والشركات والدولة والعلمانية والديمقراطية التمثيلية والفلسفات المختلفة، كل تلك المفاهيم والمصطلحات جرى اختصارها في قاموس الإسلاموية إلى التقدم المادي الغربي، حيث سعت الأخيرة جاهدة لتقزيم هذا التطور الإنساني الهائل في الغرب وتحجيم تجربته الفريدة، بدلاً من محاولة استيعابه والتفاعل معه نظراً لضعف الأدوات الثقافية لدى المجتمعات المسلمة، مما أدى إلى تفاقم أزمة الإسلام السياسي، واندفاع الحركات الإسلامية في تفسير الإسلام كعقيدة سياسية، لتسير هذه الحركات على قدمين أحدهما تحقير الحضارة الغربية والثانية التأكيد المستمر على أن الإسلام هو دين ودولة.
من تجارب سابقة نستطيع القول: إن الإسلامويين لا يستطيعون أن يعدوا بمستقبل مختلف أو مشرق أو ذهبي للمجتمعات المسلمة، أكثر الأنظمة إسلامية لا تستطيع أن تقدم للمجتمعات المسلمة أكثر مما كانت تقدمه الأنظمة الدكتاتورية التي كانت تسبقها في الحكم، على سبيل المثال في سوريا لم يحارب نظام الأسد التدين ولا حتى النشاط الدعوي، فكان بناء المساجد يتم بأريحية وكانت معاهد الشريعة منتشرة، بل أكثر من ذلك أن هذا النظام نفسه استثمر في الدين مثل أي سلطة أخرى، وكان له حزب من المشايخ المؤيدين ذوي الأتباع الكثر ومن ذوي التأثير في الناس، ما الذي يمكن أن يفعله الإسلاميون أكثر من ذلك في سوريا؟، سوف يندفعون إلى تشديد الرقابة على المجتمع والحفاظ على الفضيلة فيه، والقيام بفعاليات شعبية ضخمة ذات مظهر ديني ، للتأكيد على الهوية الإسلامية للنظام القائم.
انزلقت الحركة الإسلاموية السورية مع بداية الثورة السورية عام 2011 إلى سلفية جديدة، تركز على البعد الأخلاقي دون الاهتمام بالفلسفة السياسية، بل ذهب تنظيم داعش وتيارات جهادية أخرى في سوريا والعراق، إلى مهاجمة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا لقبولهم بالدولة المدنية ومبدأ الاقتراع، هجوم وصل لحد التكفير، مما أنذر لاحقاً بتراجع دور الإخوان المسلمين السوريين لصالح الحركات الجهادية السلفية السورية.
لاحقاً بعد تجارب محلية في شمال سوريا واقتتالات مع تيارات إسلامية أخرى داخلياً وضغوط خارجية غربية على وجه الخصوص، بدأت هذه التيارات بمحاكاة النموذج السعودي (المحافظ) ممثلة بهيئة تحرير الشام التي تولى زعيمها السلطة في دمشق بعد سقوط نظام الأسد، إلا أنها تبدو حتى اللحظة بعيدة عن تحقيق هدفها في سوريا (الإسلام هو الحل) سعياً لتقديم بديل للديمقراطية الغربية التمثيلية، وللدكتاتورية على السواء، فقد أدى فشلها في مصر بعد الانقلاب على حكومة مرسي إلى تقهقرها وبروز ضعفها أمام قوى الثورة المضادة في المنطقة وأمام التنظيمات الجهادية السلفية في المنطقة عموماً.
رغم أن حركة الإخوان المسلمين في سوريا تبدو غير بعيدة عن دوائر صنع القرار في دمشق، إلا أن المشهد السياسي لم يعد بيدها، حيث يبدو أن مشروعها “التصدي للتغلغل الغربي” أصبح طي النسيان. خلال 14 عاماً من العمل الجهادي في سوريا تحول القرار الإسلامي للحركات الجهادية السلفية، فيما بقيت الجماعة خارج البلاد تخسر الساحة، ثم حدث التحول داخل الحركات الجهادية الوريثة للإرث الإسلاموي نفسها ليصبح محافظاً على الطريقة السعودية بعد 8 ديسمبر 2024.
نظرة الاستشراق الغربي للحركات الإسلامي قائمة على التفريق ما بين الإسلام كدين والإسلاموية التي يشار فيها إلى إعادة تعريف الإسلام كنظام حكم سياسي (الإسلام السياسي)، هذا التعريف الاستشراقي المستفز ترفضه الحركات الإسلاموية، وترى فيه نزعة لتلقين المسلمين ما يريد الإسلام قوله، وإن كان الاستشراق نفسه لا يخلو من هذه النزعة، أو دعم مدرسة إسلامية على حساب أخرى حسب المصلحة الغربية، رغم ذلك قد تكون الرؤية الاستشراقية ذات فائدة إذا تم التعامل معها بطريقة إيجابية، دون أن تُثار معها عقد النقص اتجاه الغرب الذي يجمع ما بين المثال المطلوب تحقيقه والعدو الذي يخشى منه في آن واحد بالنسبة للمجتمعات المسلمة.