Blog
للكاتب: هادي عبد الجواد
ذات مرة وأنا أتمشى في شوارع بني سويف، اضطررت لتأجير سيارة أجرة للذهاب إلى إحدى المناطق البعيدة في ريف محافظة بني سويف، وفي الطريق مررتُ بميدان الإمام البوصيري، وأنا أُنشد مطلع قصيدة البُردة:
“أمن تذكر جيران بذي سلم، مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم“،
فرأيت سائق السيارة يُنشد معي ويُكمل تلك الأبيات وينطق كلماتها نطقًا صحيحًا سالمًا من الأخطاء. فسألته: هل درست من قبل الشعر والأدب؟ وإن لم تكن درست، فأين حفظتها هذا الحفظ الصحيح؟
فأجابني سائق السيارة: “هنا كانت نشأة الإمام البوصيري. نحن نتربى على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحبه من أبياته.”
وأثناء حديثنا، انتقلنا من الشوارع الواسعة إلى الشوارع الضيقة، بعد أن أدرنا ظهورنا لميدان الإمام البوصيري، كذلك الأمة الإسلامية أدارت ظهرها لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه ومحبته، فأصبحت عاجزة عن إدخال الطعام والماء والدواء والوقود لشعب عربي محاصر، بل أصبحنا عاجزين عن الذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يطيل الصهاينة ألسنتهم تجاهه صلى الله عليه وسلم في أقصانا المبارك.
“ومن تكن برسول الله نصرته
إن تلقه الأُسد في آجامها تجم“
من هو البوصيري؟
هو محمد بن سعيد، واختلف المؤرخون وأصحاب التراجم في بقية نسبه. كانت كنيته “أبا عبد الله”، ولقب نفسه بشرف الدين كما كانت عادة أهل عصره. وُلد يوم الثلاثاء، أول شوال سنة ستمائة وثمانٍ من الهجرة، في صعيد مصر، في بلدة اسمها “بوصير” تقع بين الفيوم وبني سويف، لكن أصله يرجع إلى قبيلة صنهاجة التي عاشت وقتها في بلاد المغرب العربي.
نشأ الإمام البوصيري كما كان أغلب الأطفال المسلمين وقتها، بحفظ القرآن، ثم جاء إلى القاهرة والتحق بمدرسة تابعة لأحد المساجد وتعلم علوم اللغة من نحو وصرف وعروض وأدب، بالإضافة إلى التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية والفقه وأصوله والحديث وعلومه. لم يُرد أن يتوقف عند العلوم الإسلامية، فتعلم بعض أساسيات الحساب، ولم يكتفِ بتلك العلوم، بل بدأ يقرأ في الأديان الأخرى وشرائعها وتاريخها مثل اليهودية والمسيحية.
ويُروى عنه أنه كان يكثر من الجدالات مع المسيحيين واليهود من أهل مصر وقتها، وكان مُولعًا بالرد عليهم حتى إنه يشير إلى بطلان عقيدتهم وهو يمتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في البُردة، فيقول:
“دع ما ادعته النصارى في نبيهم
واحتكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم“
تلك كانت نشأته كطالب علم، لكنه قطع رحلة طلب العلم لعدم وجود مصدر دخل يقتات منه، فاضطر للعمل كخطاط يكتب على ألواح القبور أسماء الموتى. ظل يعمل بها فترة من الزمن ليست بقصيرة، لكن بعد فترة تركها لأن العائد منها لم يكن على قدر المسؤوليات.
ورغم تركه لتلك المهنة، إلا أنها تركت في نفسه أثرًا كبيرًا، سواء في رحلته لعلماء المتصوفة في زمانه، أو لزهده في الدنيا، أو حتى في أشعاره، حيث نجد حديثه عن الموت جليًا، إذ يقول في قصيدة البُردة:
“ولا تزودتُ قبل الموت نافلةً
ولم أُصَلِّ سوى فرضٍ ولم أصمِ“
فترة طلبه للعلم أهلته ليفتح كُتَّابًا بالقاهرة، وفي هذا رد على كل من يقللون من علمه، حيث كانت من عادة ذلك الزمان أن الكُتَّاب ليس لتحفيظ القرآن فقط، بل لتعليم مبادئ العلوم العربية والإسلامية ومبادئ الحساب.
لم يستمر طويلًا في فتح الكُتَّاب لأن المال الذي يأتيه منه ليس على قدر المسؤوليات. وفي شعره واقعة طريفة حدثت وقت أن كان يعلم الطلاب الصغار في الكُتَّاب، إذ كانت هناك مكافأة لكل أصحاب الكتاتيب من الملك الصالح نجم الدين أيوب، لكن علم البوصيري أن سبب عدم وصولها إليه هو أنها سُرقت من المسؤولين العاملين حول الملك، فنظم يقول:
“ليت شعري ما مقتضى حرماني دون غيري والإلف للرحمن
أتراني لا أستحق لكوني جامعًا شمل قارئي القرآن
أم لكوني في إثرِ كل صلاة بي يُدعى لدولة السلطان“
بعد أن أغلق الكُتَّاب للسبب الذي ذكرنا، بحث عن عمل وتم ترشيحه لأن يكون قاضي حسبة، وفي هذا رد على من قللوا من علمه، فمن شروط ترشيح قاضي الحسبة وقتها أن يكون مُلمًا بكثير من العلوم الإسلامية وعالمًا بأصول الفقه، لكنه رفض أن يكون محتسبًا على الأسواق، وقال هذا في بعض الأبيات:
“لا تظلموني وتظلموا الحسبة
فليس بيني وبينها نِسبة
غيري في البيع والشرا دَرِبٌ
وليس في الحالتين لي دُربَة“
يقول في هذه الأبيات إنه يجهل العمل بالأسواق، إذ ليست له خبرة بأنواع التجارة وألاعيب التجار والمكاييل والموازين. وسبب آخر هو حبه للنثر والشعر، فيقول:
“ما سوى حرفة الكتابة لي من وطر أبتغي ولا إربه
والشعر ميزانه أُقَوِّمُهُ
وليس تَنْقَامُ منه لي حدبه“
بعد رفضه للعمل كمحتسب، ذهب ليعمل بإحدى الوظائف الحكومية في الشرقية، وكأن عادة المصريين -منذ الأزل حتى وقتنا- تفضيل العمل الحكومي على أي شيء. لكن هذه المرة كان البوصيري سعيدًا لفترة من الزمن -على عكس كل عمل سابق-، كان يتنقل بين المدن والقرى، ونظم شعرًا في تلك المُدن والقرى: بلبيس، وفاقوس، والبتيات، والحراز، وتبتيت، وشبرا البيوم، وحاجر، وقليوب، وبنها، وأتريب، وشمنديل، وسعدانة، وغيرها، إذ يقول:
“حي بلبيس منزلًا في العمارة
وتوجه تلقاء بئر عمارة
فالبتيات فالحراز فتبتيت
فشبرا البيوم فالخمارة
…
وشمنديل وهي منزلة الجيش
وسعدانة محل غراره
خلني من هوى البداوة إني
لست أهوى إلا جمال الحضارة“
لكن لم تطق نفس البوصيري الإكمال في تلك الوظيفة بسبب السرقة والفساد المنتشر، حيث قال ذلك في نونيته الشهيرة:
“ثَكْلتُ طوائفَ المستخدمينا
فلم أَرَ فيهمُ رجلاً أمينا
فَقَدْ عاشرتُهُمْ ولبثتُ فيهمْ
مع التجريب من عمري سِنينا
وقد طَلَعَتْ لبعضهمُ ذُقونٌ
ولكنْ بعدما نَتَفَوا ذقونا“
بعد تركه لتلك الوظيفة، فَضَّلَ أن يسافر إلى الإسكندرية ليتلقى بعض علوم التصوف، فلقد زهد في الدنيا مما رآه منها. فذهب للتعلم من الإمام أبي الحسن الشاذلي -إليه تُنسب الطريقة الشاذلية-، ولما مات ذهب للشيخ المرسي أبي العباس، ورافق الإمام ابن عطاء الله السكندري في طلب العلم من الشيخ المرسي أبي العباس، وقال البوصيري في مدحه:
“فاصحب أبا العباس أحمد آخذًا
يد عارف بهوى النفوس منجد
فإذا سقطت على الخبير بدائها
فاصبر لمر دوائه وتجلد“
لكن تأتي هنا المحطة الرئيسية التي غيرت حياة الإمام البوصيري بالكلية، وهي رحلته للحج وكتابته للمدائح النبوية التي اشتهر بها، حيث نظم جزءًا من مدائحه أثناء رحلة الحج، وجزءًا بعد رحلة الحج.
وقصيدة البُردة، والجدل الذي أُثير حولها، وعن صحة قصة إصابة البوصيري بالفالج، والرؤيا التي رأى فيها الرسول، كل هذا وأكثر سنتحدث عنه في مقالنا القادم.