أدب

المرآة السوداء..”أناس عاديون”

يونيو 2, 2025

المرآة السوداء..”أناس عاديون”

– عبد الكريم أنيس


ربما يعود الفضل لحالة الاكتئاب والقلق التي أصابت تشارلي بروكر، والتي انتهت به لتبني فكرة السلسلة الشهيرة والصادمة “Black Mirror مرآة سوداء” بأجزائها السبعة حتى الآن، والذي حوله من حالة اضطراب نفسي مؤقت بسبب تسارع الحياة، وسلبيات هذا التسارع، لحالة من النقاش الإبداعي المشاهد في حلقات تلفزيونية مفرطة بالمخاوف المشروعة، لأنها تتداخل مع دقائق حياتنا اليومية، مع منتجات التكنولوجيا التي تتحول شيئاً فشيئاً لتصبح بيئة بديلة قد نقع فرائس عديمة الحيلة في حبائلها يوماً.

 

 

 هذا الاكتئاب يصيب نسبةً كبيرة، لا بأس بمناقشة خلفياتها وأسبابها في مجتمعات متقدمة تكنولوجياً ومتصالحة مع الحداثة في بنية العلاقات الاجتماعية الليبرالية، والأهم أنها انتهت من فكرة تداول السلطة فيما بين أفرادها سلماً، ولكنها تستمر بالإصابة بهذا السرطان البدائي القاتل الذي يكتسحها اكتساحاً، هذه المراجعة نتيجة للسبب الرئيس الذي قام عليه إبداع بروكر في المرآة السوداء، إنه القلق من اكتساح التكنولوجيا واستبدالها بقدراتنا البشرية الفريدة من نوعها، والتعامل مع مخرجاتها السلبية التي ستؤثر على المستويات المسلكية الاجتماعية كافة، بما فيها التخلي عن الاستطاعة البشرية والشؤون القانونية المتولدة عن هذا التداخل مع الكيانات التي من الممكن أن تتولد عن هذه الحالة.

 

 

بحسب ما صُرح به عن السلسلة أنها لا تهدف لنقد التكنولوجيا بحد ذاتها، بل تُحذّر من اللحظة التي نصبح فيها عبيداً لها، حين تستبدل أحلامنا بخوارزميات، ومشاعرنا باشتراكات شهرية. وهي ليست مجرد خيال علمي، بقدر ما هي واقعٌ جديد مقلق يفرض نفسه باضطراد متواصل، يضعنا وجهاً لوجه أمام أنفسنا، في شاشة مطفأة، تعكس ما تبقّى من إنسانيتنا.

 

 

في الحلقة الأولى من الجزء السابع المعنونة بـ “أناس عاديون” يتسرب بروكر من زاوية لبيئة عائلة كلاسيكية، هادئة وبسيطة تعمل بالتوازي في عالمي التعليم والصناعة الثقيلة في أحد أبسط أشكالها، ومن زوجين متحابين يحاولان الإنجاب، ويعيشان حياتهما البسيطة بمرح وفرح مفعم بالمشاعر الصادقة، لا يظهر أنهما يمتلكان حداً كاف من التأمين الصحي، تتعرض الزوجة لعارض صحي خطير ومباغت، ويضطر الزوج تحت وطأة الصدمة أن يقبل تتدخل شركة تكنولوجية رائدة مختصة بالشؤون الجراحية الدقيقة، لاستئصال ورم يقع في منطقة لا يمكن اعتراضها جراحياً بشكل تقليدي، وتعويض الأجزاء التالفة بالتكنولوجيا التي طورتها، مجاناً، مع دفع مبالغ اشتراك شهرية بمتناول اليد، لمواصلة العيش واستعادة سعادة الحياة وآمالها، مع بعض التوصيات والاحتياطات الطفيفة، والتوقيع على عقد بدون مراجعة بنوده.

 

 

بدأ أمر التعافي كالسحر أول الأمر، ولكنه رويداً رويداً بدأ يُظهر مساوئه وعيوبه، كأي تقنية أو تكنولوجيا أخرى دخلت حياتنا رغماً عنا، ولكنها هنا تركز على عيوب ترك الدولة للأفراد ليكونوا تحت رحمة الشركات، وإن كانت تتحرك تحت مظلة اتفاقات قانونية بين بعضها بعضاً، دون أن تؤدي دورها الرقابي الذي ينظر في أبعاد الجهة الأضعف، فالمريض لن ينتظر أن يكون هناك تنظيم لهذه العلاقة وهو يواجه أمراً مفاجئاً ولا مجال لفسحة الخيارات فيه.

 

 

من هم الناس العاديون؟

 

تطرح الحلقة أسئلة عميقة لها خلفيات دلالية على المستوى الأخلاقي والاجتماعي، فمن هم الأناس العاديون؟ لنجد أنهم الذين لا يملكون المال الوفير، لا يستطيعون التوفير، يحاولون دفع قروض بيوتهم المستحقة، ليس لديهم تغطية تأمين اجتماعي بما يكفي صحياً أو قانونياً، ليس لديهم امتياز الرفض. في الماضي كان الفقراء والأناس العاديون مجبرين على التوسل عبر كهنة المعابد للحصول على الشفاء والتعافي من الأمراض، وتقديم قرابين للسدنة، في الحاضر يدفعون لشركات التأمين للحصول على رعاية طبية، ولو في حدها الأدنى، في المستقبل لا ريب أننا سندفع من أجل الترقية والتقدم في السلم الهرمي الذي ستفرضه هذه الشركات الحاصلة على التكنولوجيا، دون أن يطوق أحد حجم مسؤولياتها ويناقش حدود أرباحها ويحدد علاقة الناس العاديين وغيرهم بها.

 

 

الإنسان المغرور المقهور

 

يظهر بروكر كأنه يتسائل عن الإنسان المغرور الذي استبدل العناية الإلهية، التي طالما اتهمها بأنها تركت الإنسان لقسوة الظروف، وإذ بهذا الإنسان يستبدل الله ويصبح تدريجياً تحت رحمة الشركات، وبالتالي يبدو أنه يطلب التواضع من هذا الإنسان القادر على الوصول للتقدم بالتكنولوجيا ولكنه سيكون أكثر عجرفة وغروراً لو تُركت له مقادير الأمور بدون ضبط، فلا مجال لترك أي شركة تتحكم بصحة الإنسان ويمكنها ابتزازه عبر تقدم تقني ما، ولا بد أيضاً من الصرامة مع السماح لتقنية طبية متقدمة أن تتحكم بوعي ومدى رضى الإنسان أو حماسه أو درجة رضائه.

 

 

يمكن القول: إن العناية الإلهية تبدأ بتلقائية وجود الإنسان، حتى لحظة نهاية وجوده على الأرض، تحفظه من أمور كثيرة، قد لا ينتبه لها وهو يحصل عليها بدون عقد اتفاقيات وبشكل مجاني، ولكن رعاية الشركات المتطورة تقنياً تبدأ بتوقع اتفاقية، قد لا تعرف كل بنودها، وتبدأ بابتسامة موظف، ودعاية جاذبة أو ظروف اضطرارية، قد تُستعمل لتقييد حياة البشر وتنتهي متحكمة بحياتهم، مكبلة إياهم بقيود العقد المشروطة، كما العبيد لكن بدون أساور العبودية الكلاسيكية.

 

 

في الحلقة تماهٍ مع حالة دول مضيفة للاجئين، فكما منحت الشركة للضحية أماندا الجراحة المجانية مقابل الوصول لوعيها، تمنح دول العالم المتحضر اللاجئين إقامات نجاة من دولهم المحترقة، لكن بمقابل التزامات معينة، إذ يتوجب عليهم أن يتأقلموا مع ما يؤهلهم للبقاء بشروط ما ليبقوا محافظين على كرامتهم، تلك الشروط منها ما قد يكون متعلقاً بهويتهم والصمت عن تمييزها، وفي حال لم يلتزموا يُطردوا، إذا لم يحققوا الاندماج الذي قد لا يتوافق مع بعض قيمهم. وعبر هذا الاندماج يتم تجميد وجود اللاجئ وإذعانه لثقافة المضيف بدون تردد، وإن رضخ يُمنح المواطنة المشروطة التي تحقق الالتزامات.

 

 

شركات لا ترحم

 

في حالة الشركات يبدو الموضوع أكثر صعوبة، فالإنسان لا يملك خيارات الرفض ولا الاعتراض أو التراجع. وفي لحظة ما حُول وعي الانسان بدون سابق إخطار لحالة من الدعاية الرقمية وبدون إرادة حقيقية منه، وتم عبرها ابتزازه في أوضاع حميمية وأثناء عمله ليكون مجرد أداة ترويج مجانية، أو أن عليه أن يدفع ليتخلص من هذا العبء.

 

 

 هل وعي الإنسان الجديد أو “نسخته الرقمية” تُعد كائناً حياً له حقوق؟ من يملك الحق في استخدام هذه النسخة؟ صاحبها؟ الشركة المصممة؟ الدولة؟ ماذا لو أصبحت هذه النسخة مادة إعلامية تُستخدم في الترويج لقضايا أو منتجات تعارض مبادئ الشخص الحقيقي؟ الشركة هنا ليست صاحبة معيار أخلاقي، فقد حولت الإنسان لضحية، لأداة لزيادة الأرباح وتوسيع شبكة الخدمات، كعينات مجانية عادية أولاً، تقوم بتوظيفها كغطاء أخلاقي، لتسويق نماذج تٌستغل لاحقاً.

 

 

يوتيوب وفيسبوك وإنستغرام وغوغل وتويتر وغيرها كثير من الشركات المكتسحة لعالم الرقميات وفضاء وسائل التواصل الاجتماعي، تطالبك دوماً بدفع اشتراكات، أو عليك الخضوع لمشاهدة إعلانات تقررها عليك، رغم إعلانهم سلفاً أنها شركات مجانية، وستبقى مجانية للأبد! بالمقابل الأحاسيس الطبيعية من سكينة، ونشوة، ولامبالاة، وحتى دعم نفسي وديني لم تعد حقوقاً بشرية، بل مزايا اشتراك. 

 

 

وأمام كيفية تدبير كلفة أمر الترقية للمستوى الأعلى، اضطر الزوج في سبيل الصعود الطبقي الرقمي داخل النظام، أن ينخرط في سلوكيات مهينة ومنافسات استعراضية. وهنا يظهر التواطؤ الكامل بين الاقتصاد الرقمي وكرامة الإنسان، إذ انحدر الزوج ليدخل باباً من الاستهلاك الرخيص، ويكون هو البضاعة هذه المرة، مسابقات مهينة، محتوى جنسي غير لائق، تصويتات إلكترونية تُرضي رغبات جمهور تافه أو متوحّش، ألعاب على حساب كرامة الإنسان، أي إنه انزلق لمواقع استهلكت آدميته هو حتى يمول استمرار “حياة” زوجته، التي هي أساساً رهينة عند الشركة.

 

 

اختار بروكلي أن يستدعي نهاية مأساوية في تاريخ المسرح العالمي القديم وهي نهاية الدكتور فوستوس، ونشاهد دقائق الساعة تتثاقل باتجاه السقوط، لتعلن انتهاء عقد مع لوسيفر لقاء المعرفة، وتسليم روحه إليه بعد انقضاء فترة العقد، لقاء شيء لا يستحق هذا المقابل الثمين. فوستوس باع روحه مقابل العلم والقدرة، ولكن العقد الذي وقعه مع ميفوستوفيلوس له نهاية محددة، وبعدها أُخذت روحه رغماً عنه، أما آماندا أو وعيها الرقمي، فقد أُكرهت على الاندماج مع النظام ربما طمعاً بالخلاص، أو فراراً من الحزن، أو بدافع التجربة، لكن الصفقة تمّت أركانها، والروح ليست ملكها بعد الآن.

 

 

في الختام، يطرح بروكر سؤالاً جوهرياً، هل تُفضل أن تموت حرّاً، أم تعيش عبداً ضمن نظام متقدم تقنياً وتكنولوجياً يدّعي أنه أنقذك؟ يبدو أن الجواب أن التكنولوجيا حين تتدخل باسم المساعدة، لا تفعل ذلك إلا لتؤسس نظاماً جديداً من العبودية، مغلفاً بالرحمة، لكنه لا يختلف عن التردي لقعر الجحيم.

شارك

مقالات ذات صلة