مدونات
للكاتب: عمار الغزالي
أيّها العيدُ…
إن كنتَ تملكُ قلبًا، فلا تهبطْ على أرضٍ اختنقتْ من زحامِ القبور،
وإن كنتَ رسولَ فرح، فاعلمْ أن السماءَ التي تمرُّ فوقها لا تُمطرُ إلّا شظايا،
وأنَّ الهدايا التي يحملُها الأطفالُ في غزّة ملفوفةٌ بكفنٍ صغير،
وأنّ التهانيَ تُكتبُ هنا بالحبرِ الأسودِ… على جدارٍ أسود…
في زمنٍ أشدّ سوادًا.
في العواصم، تتزاحم الأسواق كأنّ العالمَ وُلد من جديد،
تتنافسُ الأمهاتُ على ألوانِ فساتين العيد،
وتضجُّ المخابزُ بروائح الكعك،
يشتري الأبُ لأطفاله أحذيةً تلمع،
ويشحنُ هاتفه استعدادًا لصورِ العيد.
وفي غزّة؟
يعدّون أكفانًا صغيرةً بدلًا من الأحذية،
ويُطبع على الخدِّ لا قبلةٌ… بل شظيّة.
في غزّة، لا تُغسَل الأجسادُ استعدادًا للعيد، بل تُغسَلُ لتُدفن،
لا تُفرشُ الموائدُ، بل الأرض،
ليتمّ التعارفُ مجددًا على أسماءِ الشهداء
الذين أصبحوا – قبل أن يعرفوا طعم التمر – من “أهل الآخرة”.
غابت البهجة،
وانكفأ الفرح في زاويةٍ منسية،
واستقرّ الحزن على عتبةِ كلّ بيت
كأنه واحدٌ من سكّانه.
المدينة التي اعتادت أن تلبسَ الأبيضَ في العيد،
ارتدته هذا العام على هيئةِ كفن،
المدينة التي كان صغارها يلعبون في الأزقة،
أصبحوا يتخذون من الركام أرجوحةً،
يرسمون بالتراب دوائر صغيرة،
يركضون في فراغِ الحاراتِ خلف كرةٍ فقدت لونها…
كما فقدوا آباءهم.
غزّةُ، المدينةُ التي اعتادتْ أن تمشي على قدمٍ واحدة،
والأخرى طُمِرتْ تحتَ ركامِ بيتٍ قصفته طائراتُ التمدّن العربي،
تُبعثُ كلّ صباحٍ كما يُبعثُ الشهيدُ في ضميرِ أمّه،
ثم تُرمى في آخر النشرة، هامشًا صغيرًا،
بعد أن تنتهي أخبارُ البورصة…
كأنّها خطأٌ مطبعيٌّ في جريدةِ هذا العصر الموبوء.
أيّها العيدُ،
قِفْ هناك، لا تقتربْ كثيرًا،
فالمكانُ مضرّجٌ بما لا يستطيعُ الشعرُ أن يغسله،
قِفْ على عتبةِ بيتٍ… بيتٍ بلا سقف، بلا جدران، بلا باب،
حيثُ تهمسُ الريحُ بأسماءِ الشهداءِ كما لو كانتْ تحفظهم من النسيان،
وحيثُ أمٌّ لا تزالُ تحصي أسماءَ أطفالها
كما يحصي الناجي أسماءَ أصابعِه بعد الانفجار،
تتلعثمُ عند الرقم الرابع،
ثم تسقطُ في نحيبٍ لم تتعلّمه من الأغاني،
بل من مدرسةِ “الصبرُ فريضةٌ في غزّة”.
قُلْ للذين باعوا ضمائرَهم كأنّها خُردةٌ في سوقِ السياسة،
وأفطروا على مائدةِ العارِ برفقةِ أُمراءِ التناقض،
في قُصورٍ استحمّتْ مراياها بدماءِ العُمّالِ والعاطلين،
قُلْ لهم:
هنا لا تُذبحُ الخِراف، هنا تُذبحُ المدن،
يُذبحُ الأطفالُ وهم يحملون حقائبهم المدرسيّة،
ويُعلَّقون – لا صورةً في الفصول – بل جثامينَ في قوائمِ “الخسائر الجانبيّة”.
كأنّ الطفولةَ أصبحتْ ختمَ الشهادةِ،
وجائزةَ من لا يُجيدُ لعبةَ النجاة.
في غزّة،
العيدُ ليس أرجوحة، ولا لعبةً على شكلِ بندقيّة،
العيدُ ليس فستانًا مطرّزًا بضحكةِ البنات،
ولا حذاءً جديدًا يُجَرّبُ على بلاطِ العيد.
العيدُ في غزّة
هو أمٌّ تفتحُ يدَها فلا تجدُ سوى صورة،
هو أبٌ يعودُ من المقبرةِ حافيًا،
لأنه تركَ حذاءه لطفلِه المدفون.
العيدُ في غزّة
طبقٌ من دمٍ بارد، يُقدَّمُ لأمّةٍ شبعى…
أمّةٍ تلوكُ خُطبَ المروءةِ بأسنانٍ من ذهب،
ثمّ تمسحُ فمها بمنديلٍ مطرّزٍ بأعلامِ التطبيع.
غزّةُ اليومَ ليستْ فقط جرحًا،
هي مرآةٌ تكشفُ القبحَ فينا،
تضعنا أمامَ أنفسنا كما نحن:
عُزَّلٌ من الشرف،
مُتخمونَ بالخوفِ ومناشيرِ التغافل،
نجلسُ على أرائكِ الإداناتِ اللفظيّة،
نكتفي بالبكاءِ الإلكتروني،
ونحسبُ أنَّ “اللايك” شهادةُ حُسنِ سيرٍ وسلوك!
أيّها العيدُ…
إن مررتَ على غزّة، فاخفضْ جناحَك احترامًا
لمن استقبلوكَ بيدٍ واحدة،
وبقلبٍ مشطورٍ إلى نصفين:
نصفٌ يُصلّي، والآخرُ ينتظرُ الطائرةَ القادمة.
قلْ لهم:
أنتم العيدُ،
أنتم التكبيرُ الحقيقيُّ في وجهِ الجُبن،
أنتم الصلاةُ التي لم تُقطَع رغم انقطاعِ الكهرباء،
أنتم الزينةُ المعلقةُ في دمِ الشهداء،
وأنّ فساتينَ البناتِ هنا،
وإنْ اتّسخَتْ بالتراب،
أجملُ من قمصانِ الملوكِ في قصورِهم المعقّمةِ بالخيانة.
غزّةُ…
يا طفلتنا الوحيدةَ في الصفّ،
التي تحوّلتْ كلّ دفاترِها إلى نداءِ استغاثة،
لا تبكي…
فالعيدُ الذي لا يُقبّل جبينكِ،
ليس عيدًا،
بل إعلانُ سقوطٍ جماعيٍّ للعرب!

