مشاركات سوريا

الورد الشاميّ ذهب الشام وسفيرنا إلى العالم

يونيو 1, 2025

الورد الشاميّ ذهب الشام وسفيرنا إلى العالم

رند غادري

 

نشأ الورد الشامي في سوريا وأُعجب به الرحّالة والقادة القادمون من الغرب، فنقلوه معهم خلال الحروب الصليبية إلى أوروبا في القرن الـ13. هناك، حُفظ اسمه مرتبطاً بأصله Damascena أي “القادمة من دمشق” وحاولوا استنباته، لكنّه لم يُزهر ولم يبلُغ كمالَه في أيِّ مكانٍ آخر كما في دمشق وطنه الأُم، في المراح، في الغوطة، في ترابٍ يفيض عذوبةً وجمالاً.

 

 

أينما زُرع بعيداً عن الشام، احتفظ بشكلٍ يشبهه، لكنه فقد عبق روحه، ربما هو الحنين إلى التراب، أو ربما كانت أغنية فلاحةٍ لم تُرفق مع البذور ولم تُغنى أثناء الحصاد.

 

 

في شهرَي أيّار وحزيران، يلبس الريف السوري حلّته الأجمل ويستيقظ على رائحةٍ لا يُمكن وصف جمالها.

الندى يتدلّى على بتلاتِ وردٍ زهريّةٍ زاهيَة اللون، تفتحت في الليل، وراحت تبوح بعطرها عند أول تنفُّسٍ للضوء.

 

 

تستيقظ النساء قبل شروق الشمس، يحملن سلالَ القشّ، ويمضين نحو الحقول. الهدوء يعمّ المكان سوى من نقراتِ الأيدي على الزهور، لا آلة تقطف، ولا سكين تَجرح، فقط الأصابع هي التي تعرفُ طريقها إلى الزهرة دون أن تُؤذيها.

 

 

الورد يُقطف في الفجر، حين ما يزال نديّاً، نائماً على وسادة الليل، ففي هذا الوقت، تكون الزيوت العطرية الطيّارة في أوج تركيزها ونقائها.

 

 

وحدهن النساء اللاتي نشأن بين الحقول يعرفن متى يحين موعد القطاف باليوم والساعة، ورغم قصر الموسم، تكون تلك الأسابيع القليلة كفيلة بأن تجعل القرى التي تنبتُ فيها الورود أشبه بخلية نحل.

 

 

 

بعد القطاف، تُحمَل الزهور في سلالٍ إلى معاصرِ التقطير، وهناك يبدأ السحر العلميّ في استخراجِ زيت الورد الذي يُستخدَم في صناعة العطور.

 

 

تُسخّن الزهور في قدورٍ نحاسيةٍ ضخمة على نار هادئة. البخار العطري يصعد، يُجمع، ثم يُكثف داخل أنابيب نحاسية تمر بماءٍ بارد.

ليس غريباً أن يُطلق على زيت الورد اسم الذهب السائل. الورد الشامي ليس كسائر الورود، في كلّ زهرة تختبئ قطرة عطر، ويكفي أن نعلم أن من بين كل 3 آلاف وردة، يُستخلص فقط غرامٌ واحد من زيت الورد ولإنتاج لتر واحد نقي يحتاج ما بين 3 إلى 5 أطنان من بتلات الورد.

 

 

علمياً، اكتشف الباحثون أن زيت الورد الشامي يحتوي على أكثر من 300 مركب عطري، وهو غنيّ بالمواد المضادة للالتهاب، ومضادات الأكسدة، ومُسكّنات التوتر، لكن السوريين عرفوا كل ذلك قبل أن يكتبه العلم.

 

 

إلى جانب الزيت، يُستخرج ماء الورد الذي تستخدمه الجدّات لعلاج الحُمى، لتطييب المواليد، لتجميل العرائس، لتعطير البيوت ويرششن به الأسرّة قبل النوم، كأنه كان يحرس الأحلام، وحتى ماء غُسل الموتى له نصيب منه. باختصار ماء الورد الشامي هو نهرٌ صغيرٌ من الطهارة، يرافقُ الإنسان من ولادته حتى وداعهِ الأخير.

 

 

أما مربى الورد، فطعمُه ليس كأي طعم، هو عطرٌ يؤكل وعند أول ملعقة منه تشعر أنك تُقبّل أرض الشام الطاهرة التي ما انفكَّ يمدح بها رسولنا الكريم.

 

 

مع سنوات الثورة السورية المباركة وبطش الأسد الذي طال كل الكائنات، تراجعت زراعة الورد الشامي في سوريا، تقلصت الحقول، تضررت المعامل، وغابت الأيادي التي كانت تعرف متى تُقطف الزهرة، وكيف تُقَطَّر وتُخزَّن.

 

 

ربّما تسأل نفسك، كيف ما زال الورد ينمو في بلد عانَت كلّ هذا؟

ببساطة لأن الورد الشامي يشبه أهله.. يتعبُ نعم، لكنه لا يموت وقد يُصاب بالعطش، لكنه لا ينسى كيف يورِق من جديد.

 

 

الوردة الشاميّة، ألهمت الكثيرين على مرّ العصور، فكتب عنها المؤرخون وتغزّل بها الشعراء، لكن باللهِ مَنْ أصدقُ مَن يكتب عن الورد، سوى ابن مدينة الورد نفسه؟

 

نزار قباني، ابن الشام والحارات القديمة، كتب عنه كما لو كان ينمو بين ضلوعه ويُعرِّشُ على أصابعه فقال:

هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.

 

وحقاً، لم يكن بيت نزار استثناءً، فكل بيت دمشقي قديم، مهما ضاق أو اتّسع، لا يخلو من شجيراتِ وردٍ تتسلّق الجدار أو تتدلّى من الشرفة.

 

 

هذه الورود الشاميّة التي هزّت بحضورها أسواق العطور الفرنسية، وشغلت العلماء في مختبرات بلغاريا وتركيا والهند، ما تزال تعود كل مرة إلى تربتها الأولى، إلى الشام..

 

إن تنشّقته مرّة، سكنك إلى الأبد، لأنّه وردٌ يعرف كيف يُلامس الجلد والروح معاً، فالشام لم تُصدِّر مجرد زهرة؛ بل أرسلت إلى العالم نسخة من نفسها، معطّرة وناعمة.

شارك

مقالات ذات صلة