آراء

كسوة الكعبة والنفوذ السياسي: رمزية مكة من الأمويين حتى آل سعود

مايو 31, 2025

كسوة الكعبة والنفوذ السياسي: رمزية مكة من الأمويين حتى آل سعود

منذ أن استقر التشريع الإسلامي في قلوب العرب والمسلمين في القرن الأول الهجري ، تحوّلت مكة إلى ما هو أبعد من مدينة مقدسة تعبدية ، بل أصبحت قلب الأمة العربية النابض ومركز إشعاعها الروحي والرمزي، ومن هنا بدأت معالم التنافس السياسي على مكة تتبلور وتتضح أكثر ، ليس باعتبارها فقط مكانًا للشعائر الدينية ، بل بوصفها ساحةً تُمنح فيها الشرعية القانوينة السياسية ، وتُصنع فيها الرمزية للحكم والسلطة ، ويُقاس منها عمق النفوذ السياسي لكل دولة تدّعي وتزعم قيادة العالم الإسلامي.


فمن يملك الحرمين الشريفين ، يملك الواجهة الأخطر في العالم الإسلامي؛ لأنه يملك “القبلة”، و”القداسة” ،  وهذا الإدراك لم يكن غائبًا عن أي قوة سياسية في التاريخ الإسلامي، من الخلفاء الراشدين إلى الأمويين، فالعباسيين، فالعثمانيين، وصولًا إلى الدولة المعاصرة المملكة العربية السعودية  ، وليس غريبًا أن يكون الصراع على الكعبة والكسوة ونفوذهما  كان في قلب هذه المنافسات.

وعند الحديث عن رمزيات مكة نجد أن الكسوة مثلاَ ليست مجرد قماش فاخر يغطّي الكعبة، بل كانت على مر العصور السياسية الاسلامية  “راية سيادية” تحمل اسم الدولة التي صنعتها ، فبعد تنافس الأمويين في خدمة الحرمين و جاء بعدهم العباسيون ،  كانت مصر المملكوية  تصنع الكسوة وترسلها في موكب مهيب، كانت تقول للعالم الإسلامي: “نحن حماة الحرمين، ونحن أهل السيادة.” ، وعندما سقطت مصر في يد العثمانيين الأتراك ، نقل السلطان سليم الأول الكسوة إلى اسطنبول، ليؤكد أن الخلافة قد انتقلت إليه، وأن الشرعية الروحية والسياسية أصبحت في يده.

كان إرسال الكسوة كل عام إعلانًا سياسيًا متجددًا عن النفوذ والهيمنة على المقدسات، وتحول موسم الحج إلى منصة تستعرض الرمزية للقوة الناعمة للدولة الحالية  ،  لم يكن الحج فقط فريضة، بل أيضًا “قمة سياسية إسلامية سنوية”، يعبر فيها الحجاج عن انتمائهم للتوجه الاسلامي، وتُقرأ فيها ملامح المستقبل من خلال من يتولى خدمة الحرمين.


وجغرافيًا، تقع مكة بعيدًا عن الصراعات الكبرى العسكرية كالشام والعراق ومصر والمغرب والاندلس و ايران ، لكنها بقيت دائمًا في قلب السياسة الإسلامية، لأن الكعبة تختصر “القبلة والرسالة والوحدة” ،  ومن هنا كان النزاع على من يُسمّى “خادم الحرمين” أو “أمير مكة” أو “نائب الحجاز” صراعًا على موقع القيادة  ،  فالسيطرة على مكة كانت تعني أحقية مخاطبة المسلمين، واحتكار خطاب “حماية المقدسات”، وهو خطاب يفتح الأبواب نحو النفوذ الديني والسلطة الرمزية.

ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة ولا التعجب  أن يحاول الفاطميون والقرامطة السيطرة على مكة لتقويض شرعية العباسيين، ولا أن يُرسِل العثمانيون الاتراك قوافل الحج بموكب رسمي مسلح، ولا أن تسعى المملكة السعودية لاحقًا إلى ربط شرعيتها بلقب “خادم الحرمين الشريفين” لرئيس الدولة، فذلك كله جزء من إدراك عميق بأن مكة ليست فقط بُقعة مباركة، بل منصة خطاب ديني وسياسي عالمي.


فإن من يملك الحرمين، لا يملك مجرد أرض، بل يملك مسؤولية إدارة الصف الإسلامي كله ، فالحج يجمع كل الطوائف والأعراق والمذاهب، ومن يدير هذا التجمع السنوي قادر على أن يلعب دور الوسيط والموحّد والقائد ، ولهذا فإن إدارة الحرمين اليوم تتطلب وعيًا سياسيًا ناضجًا، وأفقًا إسلاميًا يتجاوز الحدود الضيقة ،  فالمسلمون ينظرون إلى مكة لا كعاصمة دولة، بل كعاصمة قلوبهم، ويأملون أن تبقى منبرًا للوحدة، لا ساحةً للاستقطاب.


وفي العصر الحديث، تبذل المملكة العربية السعودية جهودًا استثنائية في خدمة الحرمين الشريفين، وتوفير سبل الراحة والأمان لملايين الحجاج القادمين من أصقاع الأرض ، فمن توسعة الحرمين الكبرى، إلى تنظيم مواسم الحج باستخدام أحدث وسائل التقنية، إلى العناية الفائقة بالكسوة، والنقل، والمياه، والخدمات الطبية، أثبتت المملكة أن شرف خدمة الحرمين لا يُقاس بالأقوال بل بالأفعال. وقد أصبحت إدارتها للحج نموذجًا عالميًا يُشاد به من قبل الدول والمؤسسات والمنظمات الإسلامية والدولية.


لكن هذه المكانة العظيمة، وهذه القدرة على جمع المسلمين في بقعة واحدة، تُحتم على المملكة – بما تملكه من رمزية وثقل – أن تقود أيضًا مزيداَ من الجهود السياسية والروحية لتوحيد الصف الإسلامي، ولمّ شتات الأمة التي تمزّقها الخلافات والصراعات الآن أمام أعيننا ،  فمكة ليست فقط قبلة الصلاة، بل ينبغي أن تكون قبلة السياسة النبيلة، والحوار الراشد، والمواقف التي تُعيد للأمة كلمتها وكرامتها.

شارك

مقالات ذات صلة