مدونات

الفخ المصطنع: موافقة غادرة وخبيثة لوقف نار مُفصلٍ لإسرائيل!

مايو 31, 2025

الفخ المصطنع: موافقة غادرة وخبيثة لوقف نار مُفصلٍ لإسرائيل!

الكاتب: مصطفى نصار

 

وضعٌ مأساويّ تحت ضغوط متعددة: مأزق ويتكوف الجديد السابق!!

على مدار مرتين بفترات متساوية، أعلن مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، عن مقترح أولي لوقف إطلاق النار، يشتمل على عدة حيل، منها إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين على حساب الأسرى الفلسطينيين، مع الوضع في الاعتبار أنها هدنة مؤقتة موقوفة بمدة ٦٠ يومًا، للتأهب والاستعداد الصهيوني لإكمال الحرب مجددًا، فضلًا عن رسم صورة النصر المؤقت الذي يهدف له نتنياهو بإطلاق سراح الأسرى، والحفاظ على حكومته المتطرفة في الحكم، أي أنه تم بموافقة وصياغة إسرائيلية في الأول والأخير.


بالطبع، رفضت حماس المقترح الأولي يوم الاثنين الماضي، لشروط جوهرية هامة للغاية، أهمها وأجدرها عدم تحديد مصير الحرب ودفتها الأساسية، وكذلك إغفال الوقف الكامل للحرب، والصياغة الركيكة التي تلزم حماس بضغط كبير وحزم بالغ من الجانبين ليظهر بصورة البطل الذي يريد وقف الحرب الإبادية المستمرة لأكثر من عامين، مكلفة إسرائيل عناءً شاقًا داخليًا، وتحويلها لدولة منبوذة عالميًا، بتعبير الجنرال يائير جولان، رئيس حزب الديمقراطيين اليوم الإسرائيلي، موجهًا هجومًا لاذعًا وعنيفًا من كل المسؤولين في الصف الأول، في تصريح صادم للغاية على غير عادتهم.


ليأتي سمسار ترامب العقاري، ووزير خارجيته الفعلي ويتكوف، مجددًا باقتراح عدلته إسرائيل ليوافق الهوى الإسرائيلي، المتمثل في عدم الالتزام والتنصل الحقيقي والدائم من أي اتفاق صلب، غير ملزم، يقضي بوقف إطلاق النار نهائيًا للأبد في غزة، مع انسحاب دائم للقوات من غزة، لكن ويتكوف صاغ المقترح مرتين، ليظهر الصورة الأخيرة منه بخبث شديد، وخديعة منحطة وقحة عن ثغرات قاتلة، ليس فقط في المقترح وشروطه، بل أيضًا في الإفلاس والتخبط الأمريكي الإسرائيلي، الذي جعلهما يتفقان منذ تنحية إسرائيل من حسابات ترامب جزئيًا، ما يثير سؤالًا مشروعًا وواضحًا: ما الذي تغيّر بينهما بهذه السرعة حتى يتمم الأمر بهذه العشوائية المتبجحة؟


ما يثير الريبة كذلك هو اندفاع جميع الأفراد لإتمام الصفقة، أو بمعنى أدق في تلك الحالة المجنونة “الهدنة المؤقتة”، لعدة أسباب جوهرية، تبني شرعية المحتل وتلمع صورته، فضلًا عن تحيزه الصارخ، الذي لا يحتاج أدنى ممر إغاثي، أو ثغرة، أو محافظة على رواسب الصورة الإنسانية الأخلاقية، غير طبعًا رغبة ترامب الملحة في إنهاء الحرب، لكن يظل الوضع مفتوحًا قيد موافقة الطرفين، حتى موافقة حماس، والتي من الأفضل رفضه، لأن مكاسب الاحتلال الإسرائيلي بهذه الصفقة داخليًا ستعطيه موجة إيجابية لنفحة معتبرة من الثقة.


وعلاوة على ذلك، فإن المقترح الثاني لا يقدم أي ضمانات، بالمعنى القانوني، لعودة نازحي الجنوب من الشمال أو العكس، وخاصة بعد تطبيق خطة المساعدات الغارقة في الإجرام والقمع الصهيوني بشكل عام، لعل هذا ما لفت نظر الهيئة العليا لشؤون العشائر الجنوبية، وما يعزز الشكوك المثارة بعدم قدرة حكومة نتنياهو على التوقيع على صفقة دائمة، لما تشعر به من خطر داهم وحدق محيط بها من جميع الجهات داخليًا، سواء في ملف الأسرى الإسرائيليين، أو الملف الاقتصادي المنهار، الذي أكد عدة اقتصاديين أنه على الحبال الراقصة، بما فيها توقف الشركات والمصانع.

ويتزامن هذا المقترح الخبيث مع وضع إنساني مأساوي، بوجود حصار خانق حقيقي، دون دخول كسرة خبز أو شربة ماء، وإبادة ممنهجة للأطفال والصحفيين، والبنية التحتية، وفقًا لتحقيق موسع من الصحفيين الإسرائيليين ميرون رابوبورت وأورين زيف، بشكلٍ جعلا الكاتبين يصفان الأمر بـ”الخرابة المهندسة”، مع تواصل العمل العسكري بشدة، وهمجية أكبر في إسقاط تاريخي يكرر نفسه على المستوى القريب والبعيد، بمساعدة متواصلة من الدول العربية، بأقصى ما يستطيعون، لئلا يهزم الاحتلال، وهو مدحور، ما يشكل ممهدًا لفتح الأحداث الماضية والملابسات المصطنعة، التي تمكن الاحتلال من ارتكاب مذابح وحشية منذ صبرا وشاتيلا.


تاريخ ملغم ونتيجة واحدة: من مجزرة حيفا لعربات جدعون.

من يظن أن سمسرة ويتكوف في محاولته لخداع المقاومة مستحدثة أو شيء غريب، فالتاريخ الفلسطيني تحديدًا له سجل طويل وملغم، وأكثر تعقيدًا في كيفية الانصياع المؤلم، أو التنازلات التي دفع العالم ثمنها، بداية من الانتداب البريطاني لفلسطين عام ١٩٢٠ بحق، حيث لجأ الاحتلال الإنجليزي لفرض عقوبات ومنهجية حكى عنها المؤرخ الشهير عارف العارف في كتابه “النكبة”، حيث فصل وأخرج الإنجليز قوانين لبيع الأرض وشرائها من عائلات الإقطاعيين.

في مرحلة أخرى، غدرت العصابات الصهيونية بالفلسطينيين في مجزرة حيفا الدموية، التي قام بها مناحم بيغن وآرييل شارون، ليقتلوا ٤٣ شخصًا بريئًا لمجرد طلبهم الخروج، ثم هربوا للأماكن وسط المجهول، بحثًا عن ملاذ آمن، حتى كونت الحركات المسلحة الفلسطينية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحركة أحرار فلسطين، فضلًا عن جماعة الجهاد المقدس المدارة، والمقادة من عبد القادر الحسيني، القائد الفذ الذي دفع أكثر ما يملك وأغلاه، ألا وهو حياته، وسط صمت مريب ومدوٍ للجامعة العربية بقيادة عبد الرحمن عزام، الذي كتب له عبد القادر أنه “عائد وسيكمل القتال حتى لو قتلت وفقدت حياتي”، وبالفعل دفع حياته ثمنًا لذلك الخداع الوقح والكارثي.

علاوة على ما سبق، فإن لحظة الغدر النموذجية والمماثلة لما ذكر، تكمن في مذبحة صبرا وشاتيلا، ومذبحة دير ياسين، حيث إن كلتا المجزرتين تمتا بعد مفاوضات واسعة، مع اختلاف صارخ في أن إسرائيل وأمريكا، بمجرد مغادرة عرفات لبنان، قام حزب الكتائب الممثلة برلمانيًا بقيادة المجرمين إيلي حبيقة، ومارون مشعلاني، حتى اعتبر بعض الصحفيين الأجانب ما تم في صبرا وشاتيلا في ١٤ سبتمبر ١٩٨٤ بمثابة إبادة جماعية “مكملة للحرب الأهلية في لبنان”، بحد قول روبرت فيسك في كتابه الكاشف “ويلات وطن”.

أي أن تلك السجلات الديمومة في الغدر والخبث والمكر الإسرائيلي، يسجل دوره البارز والعميق بحق في هندسة الصفقة الماضية في شهر مارس الماضي، والتي هي، وفقًا لراجان مينون، وعاموس هارئيل، انحراف معتمد وتنصل، حتى حصل نتنياهو وشركاؤه الإقليميون على أسراهم، وكذلك ترامب، الذي ظل طويلًا يوعد بإنهاء الحرب المدمرة، لكن ما حدث كان العكس تمامًا، حيث استخدموا المساعدات كسلاح مهين ونزاع للكرامة والإنسانية، فتولى أهالي غزة أمرهم، فحدثت فوضى تنم عن فشل مرحلي، وصولًا للسؤال الأكبر حول الهدف الحقيقي الذي تريده إسرائيل من غزة حاليًا، وأيضًا الولايات المتحدة من وراءها.


التهجير أو النكبة الثانية… أينما تولِ وجهك تجد المهانة، والعُقبى للمقاومة.

في مقال للدكتور أحمد راشد بن سعيد على موقع “ميدل إيست آي” بعنوان العدو الداخلي: كيف تحولت الأنظمة العربية لأعداء فلسطين، ينشر الدكتور شهادة حقيقية عن المقاومة في غزة، الدرع الأخير للدول العربية من إسرائيل، وبالتالي فإن تركها للعربدة الإسرائيلية في غزة ثمنه مكلف بحق، لا على النطاق الجغرافي فقط، بل على “الشركاء الإقليميين”، وأمريكا نفسها ستتضرر بسبب دعمها لمجرمي الحرب، وخذلانهم الكارثي والعملاق، الذي وضعت غزة بين فكي التهجير وعربات جدعون.

فخلال ٦٠٠ يوم من الحرب الإبادية في غزة، تصر إسرائيل على استمرار الحرب الهمجية منذ اغتيال حسن نصر الله في لبنان، دون تحقيق أي هدف عسكري أو استراتيجي يُذكر، غير الغدر، مثل صفقة عيدان ألكسندر، الشاب الصهيوني ذا الجنسية الأمريكية، والتي تلقت حماس كلمة من الولايات المتحدة بالمساعدة “للتوصل” لوقف إطلاق نار دائم في غزة، فضلًا عن محاولة الكيان الإسرائيلي فرض كلمته، باعتباره المنتصر، لكنه نصرٌ، وإن تحقق، فتحقيقه أتى على حساب دماء مئات الآلاف، مع قطاع بلغ الحضيض في كل شيء، وتحول للعصر الحجري.


وفي أعقاب تلك الإبادة الجماعية، انتقلت عدوى الاستبداد العربي المقيت للصهاينة، ممزوجًا بروح الهزيمة والانكسار، جعل القادة الإسرائيليين يطالبون بالفعل بافتعال النكبة الثانية، على لسان أكثر من مسؤول من حزب الليكود، والحكومة المتطرفة، وعلى رأسهم بن غفير وسموتريتش، وكذلك النواب المتطرفون من الكاهانية الدينية، التي عبر عنها تصريحات منحطة من عينة وزير الآثار والإعلام الإسرائيليين المتطرفين شلومي زاند وحاييم أرامي، اللذين يعتبران الحرب حربًا مقدسة مباركة، راسمين بها صورة مثالية من المسحة المتصهينة، وسط حالة عامة من الهزيمة أحس بها المجتمع الصهيوني نفسه، دونما حكومته.


في هذا الصدد، يرى الباحث في الشأن الفلسطيني، ساري عرابي، أن إسرائيل لا تريد غير أن تعلن الانتهاء منها “بأقل خسائر يمكن أن تصلها”، مع إبقاء الحكومة المتطرفة على رأس السلطة، لرغبة نتنياهو في عدم قبر مستقبله السياسي، وحتى المهني، كمستشار سياسي أو عسكري في المستقبل. وبالمثل، تريد المقاومة تحقيق شروطها البسيطة والسلسة، مفادها إطلاق سراح كامل الأسرى، وكذلك انسحاب القوات البرية من غزة، ولهذا يمكن اعتبار الحرب الأبدية، بتعبير آدم شاتز، بمثابة معادلة صفرية، وما مقترح ويتكوف إلا طنطنة فارغة جوفاء لا أمل فيها، بسبب محاولات جميعها إما انتهت بتنصل أو غدر صارخ.


وخير دليل على حالة “التعنت” المتبادلة، كما تُسمى في الإعلام العبري، بعكس ما يُروَّج بكثافة وكثرة متعددة، تأكيدًا فقط لما يريده نتنياهو من صورة قاتمة، في الحقيقة يكتب آخر سطور في مستقبله السياسي، وسط تساؤلات حقيقية ومشروعة عن جدوى العملية العسكرية، وسط عزلة دولية متزايدة دبلوماسيًا واقتصاديًا، لتنتقل “الدولة الأخلاقية والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” إلى دولة مارقة فاشلة إرهابية، وسط رأي عام عالمي، ومقاومة واعية مصهورة بقهر وقمع وبطش احتلال دام ٧٧ عامًا، متطورة فكريًا، ومتخطية فكرة المهادنة المبدئية حتى، بحد وصف عدنان أبو عامر، الباحث والصحفي، في كتابه تطور فكر المقاومة الفلسطينية.

 

شارك

مقالات ذات صلة