ماذا تفعل عندما يبتعد عنك صديقك المقرّب دون سابق إنذار؟.. The Banshees of Inisherin!
كان لديه صديقٌ مقرّب، يلازمه في كل مكان، ودائمًا ما يقضيان أوقاتهما معًا، وفجأةً دون سابق إنذار ودون مقدّمات ودون أي تفسير واضح، هذا الصديق يبتعد عنه، ولا يودّ التواجد معه في أي مكان، أو التحدّث معه بأيّة صيغة من الصيغ، بل ويهدّد بأنْ يقطع أصابع يده الخمسة لو تجرّأ وتحدّث معه.
هذه هي حبكة الفيلم الرائع “The Banshees of Inisherin” أو “جنّيات إينيشيرين”، التي تبدو بسيطة ظاهريًّا كحبكات الأفلام الإيرانية المتميزة، التي تبدأ بموقف صغير وبسيط، مثل كرة الثلج التي تتدحرج عبر المنحدر لتكبر شيئًا فشيئًا وتدمّر كل شيء أمامها.
الكاتب والمخرج المبدع “مارتن ماكدونا” أذهلنا في عام 2008 بفيلم “In Bruges” ولاحقًا في عام 2017 بفيلم “Three Billboards Outside Ebbing, Missouri” وعاد في عام 2022 ليذهلنا مجدداً بهذا الفيلم.
القصة تبدو وكأنها من الأساطير الشعبية الإيرلندية أو من مأساويّات “وليام شكسبير”، وهذا ما جعل الفيلم أكثر روعة، بأسلوب السرد بقالب الدراما والكوميديا السوداء، وتصاعد الأحداث وتحوّلات الشخصيات، وإظهار الثقافة الإيرلندية والمجتمع البسيط والمعتقدات السائدة.
“كولن فاريل” و”بريندان غليسون” كانا ثنائيًّا رائعًاً في فيلم “In Bruges”، وفي هذا الفيلم قدّما أداءً مدهشًا بشخصيتَيْ “بادريك” و”كولم”، وكذلك “كيري كوندون” التي أبدعت في أداء شخصية “شوبان”، شقيقة “بادريك”، ولا أنسى “باري كيوغن” بشخصية الشاب المخبول “دومينيك”. بقية الممثلين أبدعوا أيضًا، والجدير بالذكر أنّ “بريندان غليسون” أدى جميع مَشاهدِه بشخصية “كولم” التي تتطلّب العزف على الكمان دون الاستعانة بشخص مختص، لأنّه في الواقع عازف موهوب وخبير، وفعل الشيء ذاته في مَشاهد شخصيته في فيلم “Cold Mountain” في عام 2003.
الموسيقى التصويرية للمبدع “كارتر بُرْويل” كانت جميلة وشاعرية، وكذلك التصوير والمونتاج وبقية الأمور الفنية والتقنية. لقد أبدع “مارتن ماكدونا” في الإخراج وكتابة النص السينمائي، والحوارات في الفيلم كانت قوية وبليغة، وتدعو للتفكّر والتأمّل في حياتنا ومدى تأثيرها.
مدة الفيلم ساعتان، وكنت مستمتعًا بكل لحظة، وقد بلغت ميزانية إنتاجه 20 مليون دولار، وقد حقّق نجاحًا لافتًا بإيرادات تزيد عن 50 مليون دولار في شبّاك التذاكر في أمريكا وبقية دول العالم، حيث نال الفيلم إعجاب النقّاد والجمهور.
ترشّح الفيلم لـ 9 جوائز أوسكار، لأفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل نص سينمائي أصلي وأفضل ممثل “كولن فاريل” وأفضل ممثل مساعد “بريندان غليسون” وأفضل ممثل مساعد “باري كوغن” وأفضل ممثلة مساعدة “كيري كوندون” وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل مونتاج.
الفيلم يحمل رسائل كثيرة ومعانٍ رمزية، وأكثر ما لفتني هو موضوع الحرب الأهلية في إيرلندا التي لا نرى تفاصيلها ولا نعرف دوافع أطرافها، ولكننا نسمع، والشخصيات كذلك، أصوات القصف والانفجارات بين الفينة والأخرى، وفي المقابل حبكة الفيلم الرئيسية هي أيضًا حرب أهلية، ولكن بين شخصين فقط، لندرك في النهاية أنّ بدايتها تكون هكذا دائمًا.