سياسة
سنوات القمع الدامية، جعلت العنف في وعينا الجمعي مرتبطاً بالقمع والقتل والقصف والاعتقال والتعذيب، إذ لم نكن نملك رفاهية ملاحظة وتتبع العنف الرمزي المتغلغل في الخطاب العام والتفاعلات اليومية. بعد التحرير، بات هذا النوع من العنف الأكثر ظهوراً، متمثلاً بخطابات الكراهية والتحريض الطائفي والتخوين وتبرير الانتهاكات واستسهال دعوات الإبادة والتلذذ بإذلال “الآخر” المختلف وإهانته.
هذه الظواهر، ليست مجرد أحقاد متراكمة وتشوهات مجتمعية انبثقت عن 14 عاماً من النزاع، بل هي تجليات لعنف بنيوي متجذر منذ عقود في المجتمع السوري، ناتج عن سياسات عائلة الأسد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي رسخت حالة من التطبيع مع العنف، حتى غدا جزءاً من الثقافة المجتمعية.
تناولت العديد من الأبحاث ظاهرة العنف المجتمعي بوصفه امتداداً طبيعياً للعنف السلطوي، حيث ينعكس العنف الممأسس الذي تمارسه الدولة على البنى الاجتماعية، ويتحول إلى سلوكيات سلطوية تهيمن على التفاعلات اليومية بين الأفراد.
على مدار عقود، عانت سوريا من حكم استبدادي استُخدم فيه القمع أداة مركزية في إدارة المجال العام. إذ عمل حافظ الأسد، فور اعتلائه السلطة على تصفية خصومه السياسيين وكبح جميع الأصوات المعارضة، كما فرض سيطرة الحزب الواحد مقابل حل جميع الأحزاب السياسية التي لا تنضوي تحت سيطرة البعث، وعمل على تفكيك أي بنية تنظيمية مستقلة سواء كانت نقابات أو شبكات اجتماعية مدنية، وحرص على فرض رقابة صارمة على الإعلام والتعليم والمجال الديني.
بالإضافة إلى ذلك، عمل بشكل ممنهج على تفتيت الهوية الجمعية السورية، من خلال تبنيه لسردية “حماية الأقليات” والتي تفترض بالضرورة وجود عدو وهمي يشكل تهديداً وجودياً لباقي فئات المجتمع، ممثلاً بالأكثرية السنية. وكان للسياسات التمييزية التي انتهجها في توزيع الموارد والفرص والامتيازات، أثراً في تقسيم المجتمع السوري على أسس طائفية ومناطقية وطبقية.
اتبعت عائلة الأسد كذلك، سياسات اقتصادية خلقت نخبة فاسدة مرتبطة بالسلطة، تسيطر على القطاعات الحيوية وتحتكر ثروات البلاد. ما أدى إلى توسيع الفجوة بين الطبقات، مع تهميش الغالبية العظمى من السكان الذين عانوا الفقر والبطالة.
يرى عالم الاجتماع النرويجي، يوهان غالتونغ، أن التعرض لمثل هذا “العنف البنيوي” يخلق عنفاً غير مباشر يعيد إنتاج نفسه داخل المجتمع. وبسبب عجز الأفراد عن توجيه غضبهم نحو الأعلى (السلطة) يُوجه أفقياً ليتحول إلى عنف داخلي بين الأفراد.
في الحالة السورية، برز العنف المجتمعي بالفعل وسيلة لتفريغ القهر السياسي والتعويض عن الشعور بالعجز. كما شكل الفقر والانهيار الاقتصادي عوامل حولت البلاد إلى ساحة صراع من أجل البقاء. في حين خلقت الانقسامات المجتمعية عداوات دفينة بين الطوائف والطبقات والمناطق المختلفة، كانت أشبه بنار تحت الرماد تنتظر شرارة الاشتعال.
هندس نظام الأسد مجتمعاً يتقبل العنف بل ويمارسه كذلك، من خلال عمله لعقود طويلة، على ترسيخ ثقافة الخضوع في الوعي الجمعي للمواطنين، بما يضمن انصياعاً أعمى للسلطة وثقة لا تتزعزع في “حكمة القيادة”.
في محاولاته لفهم دوافع تأييد ملايين الألمان لنظام فاشي كالنازية، تناول عالم النفس الاجتماعي تيودور أدورنو مفهوم “الشخصية السلطوية”، وهي نمط نفسي يتسم بالطاعة العمياء والانجذاب إلى السلطة الأبوية ممثلة في القائد “القوي”. كما تفتقر هذه الشخصية للتفكير النقدي، وتتبنى صوراً نمطية وأحكاماً مسبقة عن “الآخر” المختلف.
خلص أدورنو إلى أن هذه السمات تتشكل نتيجة تربية قمعية، وبيئة سياسية مغلقة، وثقافة تعلي من شأن السلطة وترفض الاختلاف.
عمل النظام الأسدي بالفعل على تنمية “الشخصية السلطوية” داخل المجتمع السوري مستخدماً العديد من الأدوات، بما في ذلك المؤسسات التعليمية والإعلام الرسمي والخطاب السياسي والرموز الثقافية والدينية.
وهي أدوات تضافرت لتلقين المجتمع القيم والأهداف والمبادئ التي يفترض أن يتبناها ويضحي في سبيلها بما في ذلك الولاء للقائد وتمجيد السلطة. كذلك عمل النظام على تنظيم أفراد المجتمع ضمن أجسام موالية للسلطة ابتداء من طلائع البعث مروراً بشبيبة الثورة وانتهاء بجميع المؤسسات المدنية التابعة لحزب البعث، وبذلك قوض قدرة الأفراد على التفكير المستقل، وسحق الفردية لصالح انتماء جماعي للوطن الممثل بـ”القائد”.
تغذية “الشخصية السلطوية” في المجتمع السوري، جعلت الأفراد أكثر ميلاً لتبرير عنف الدولة وتقبله وممارسته حتى. وقد استغل النظام الأسدي هذه السمة، لتجنيد المواطنين أنفسهم في منظومة القمع (الرمزي والمباشر) الذي تمارسه الدولة على المجتمع.
أسس حافظ الأسد عبر أجهزته الأمنية شبكة ضخمة من “المخبرين” ورثها عنه ابنه بشار وعمل على تطويرها. كانت وظيفة هؤلاء المخبرين مراقبة أفراد المجتمع للتبليغ عن عملاء وخونة متخيلين يسعون للتآمر على سوريا وينفذون أجندات خارجية ويحاولون النيل من هيبة الدولة. وهكذا صُوِّر المخبر على أنه مواطن صالح يؤدي دوراً بطولياً ويساند السلطة لحفظ أمن واستقرار البلاد.
إثر الثورة السورية، زادت خطورة المتآمرين على الوطن، لا سيما مع معارضتهم الصارخة والصريحة للدولة وتبنيهم للأعمال “الإرهابية”. هنا تحول المخبر إلى شبيح، ينخرط بشكل مباشر في العنف المسلح الذي انتهجته الدولة لقمع المعارضين، كل ذلك في سبيل حماية أمن الوطن والتصدي للمؤامرات الخارجية.
بمثل هذه السياسات نجح النظام في تفكيك المنظومة الأخلاقية في المجتمع، وشرعن العنف على اعتباره “واجباً وطنياً”.
بكل تأكيد، لم تكن ممارسة العنف بداعي الوطنية دائماً، لا سيما خلال الـ14 عاماً الماضية، والتي خلقت تطبيعاً غير مسبوق مع العنف الذي تحول إلى أداة متعددة الوظائف. فقد برز مصدر دخل للعديد من المنخرطين في الصراع، في ظل غياب القانون وشرعنة النهب والتعفيش والابتزاز.
كما أصبح أداة تمكين اجتماعية وسياسية، حيث بات حمل السلاح طريقاً مختصراً نحو النفوذ والهيمنة وفرض السلطة في الفراغ الذي خلفه انهيار الدولة. اكتسب العنف كذلك بعداً وجودياً، باعتباره وسيلة للدفاع عن الهوية وأداة للبقاء في ظل المجازر الطائفية، والإبادة الجماعية التي تعرض لها سكان المناطق المعارضة.
النزاع المسلح وما نتج عنه من قتل واعتقال وتهجير، حوّل العنف إلى مشهد اعتيادي، وخلق مظلوميات متراكمة ولدت موجات من العنف والعنف المضاد بعد التحرير. التقسيم الممنهج للمجتمع السوري على أسس طائفية، والمجازر الطائفية التي شهدتها البلاد سواء خلال ثمانينيات القرن الماضي أو خلال سنوات النزاع، ولدت احتقانات عمرها يزيد عن 5 عقود، تستحيل معالجتها بين ليلة وضحاها.
التكتلات الطائفية والمناطقية قبل الثورة، وانقسام سوريا جغرافياً لأربع مناطق سيطرة بعدها، والمحاولات الممنهجة لشيطنة “الآخر”، جعلت المجتمع السوري غير قادر على التحرر من ثنائيات “نحن” و”هم”. كل هذه عوامل ساهمت في تضخيم العنف الرمزي المتمثل بخطابات الكراهية والإقصاء المنتشرة على نطاق واسع اليوم.
على مدار نصف قرن، حولت عائلة الأسد البلاد إلى جحيم كبير.. بيئة معبأة بالمظلوميات غير المعالجة، مفككة اجتماعياً، محتقنة طائفياً ومنهارة اقتصادياً.
تخلصت سوريا اليوم من الشيطان الأكبر، لكن للتخلص من إرثه نحتاج إلى عدالة تطفئ
نار قلوبنا، قوة تساعدنا على كسر دائرة الأحقاد المتوارثة، تربة خصبة نعيد فيها غرس جذورنا. نحتاج قلوباً قادرة على الغفران ونحتاج إلى ملائكة يقطنون الجحيم.