تأملات
عزيزتي د.آلاء النجار:
أهداني رجل أحسبه من الصالحين قبل فترة كتاب سنن النسائي، وسبحان الله أول ما فتحت الكتاب بشكل عشوائي لأتصفحه وقع نظري على هذا الحديث الشريف، قال رسول الله ﷺ “ما منكن امرأة تقدم لها ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار، فقالت امرأة واثنتين؟ فقال واثنتين” أي تقدّمهم للدار الآخرة
تخيّلي لوهلة انتظرتُ في تتّمة الحديث أن تسألَ امرأةٌ (وأربعة؟) لكنني لم أجد، يعني حتى لم يخطر على النساء في زمن النبيّ ﷺ أن يرتفعن عن العدد ثلاثة، فتساءلت فما جزاء من قدّمت أربعة؟ علّني أواسي قلبي بقوله ﷺ
لكنني على الأقل ضمنت الحدّ الأعلى للحصول على حجاب من النار، وزاد عليّ الله بأن كان لي أربعةٌ عنده
أتساءل فكيف بمن قدّمت تسعة؟
يعني ثلاثة أحجبة من النار؟ لا أستطيع أن أتخيل المسألة، لكنّه مقام عظيم حتى تأمّلي له يبدو محدوداً.
أتذكر أنني سألت أمّي في بداية فقدي لأطفالي لماذا النّاس يقدّمون لي التعازي بهم، لم أكن أعاني من صدمة أثرت عليّ حينها، لكنني بحقّ كنتُ أصدّق الله تماماً في مسألة أنّهم أحياء وهو القائل ” ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء ولكن لا تشعرون”
فكيف سأصدّق الأخبار وألسنة الناس وصورة قبرهم الظاهرية فيما بعد، ولا أصدّق الله عزّوجلّ.
اخترتُ أن أصدّق الله عزّوجلّ، ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش شيئاً من التصالح الذي خفف عن قلبي عبء هذا الابتلاء العظيم، حتى إنني حين تأملت قوله سبحانه وتعالى( ولكن لا تشعرون ) لم يقل (لن تشعروا) ( فلن تفيد نفي الشعور في المستقبل)، ولم يقل ( لم تشعروا ) (فلم تفيد نفي الشعور في الماضي والحاضر)، قال ( لا تشعرون ) والنفي بهذا الشكل يحتمل أن ينقلب إلى الإثبات، فهو ليس نفياً صارماً بمعنى استحالة أن يحدث مستقبلاً مثل ( لن ) أو استحالة أن يحدث في الماضي أو الحاضر مثل (لم)، بل كان التعبير (لا تشعرون)، يعني يمكن ألا تشعروا ويمكن أيضاً أن تشعروا، وشعورك هنا على حسب تصديقك، لأنّ سياق الآية كان في مخاطبة أناس يقولون عن الشهداء أموات، فنفى الله عنهم الموت وأثبت لهم الحياة، وعزى عدم إدراكهم أنهم أحياء لأنهم لا يشعرون، لكن إذا تحققت بعدم قولك أنهم أموات، فستتحققين بإدراك أنهم أحياء وستشعرين بذلك.
وستشاهدين في هذا عجبا!
أقول لك عجباً لأنني عشته مع أطفالي الأربعة، ولا أخفيكِ لم أبكهم فقداً، لأنني أعرف أنني لم أفقدهم وأنهم موجودون، لكنني أبكيهم كل يومٍ شوقاً وحنيناً وتوقاً، وفي كل مرّة أسأل الله أن يربط على قلبي وأن ينزلني منازل الصابرين المحتسبين الراضي عنهم والراضين عنه
تكتشفين في عظمة الابتلاء عظمة السكينة، وتدركين كنه هذا السرّ العجيب، وتتحققين بمعنى ( فإنّك بأعيننا) وهذا المعنى هو نتيجة للصبر لحكم الربّ، يعني كأن الله يقول ( ألا تقبل يا عبدي أن تصبر لحكمي وتكون في عيني ؟ )
انظري ما أجمل هذا المعنى حين تتأملينه؟
من لا يقبل أن يكون بعين الرحيم الرحمن الجميل الودود المعين؟
لا أحد في العالم يمكن أن يربط على قلبك سواه، لقد أدرك هذا سيدنا يعقوب في فقدان ابنه يوسف حينما قال ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله )
تخيلي أول ما جاءني الخبر، وكنت قد استودعت أطفالي الله في ذلك الوقت إلى درجة أنني قلت لو اليهود قتلوا كل أهل المنطقة سينجو أطفالي، من شدّة يقيني بالله عز وجل أنه سيعيدهم لي سالمين.
فلمّا تأكد خبر استشهادهم وأنَّ اليهود قد أبادوا كل سكان تلك المنطقة ولم ينج أحد
من شدة صدمتي سألت الله سؤالا في قلبي ( يا رب هل كنت تعلم أنَّ أولادي كانوا في البيت حينما قصف اليهود عليهم المنزل)
وكنت في ذلك الحين أقرأ وردي من القرآن الكريم، وقد وصلت إلى أواخر سورة آل عمران، وسبحان الله في نفس التوقيت الذي طرحت ذلك السؤال في قلبي قرأت هذه الآية ” وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ” ولم تكن مجرد آية
أنا شعرت أنّ الله عز وجل ردّ على سؤالي بسرعة حقيقة في اللحظة ذاتها، وهي من الأمور العجيبة التي لن أنساها أبداً، وبعدها بكيت وأنا أقول له طالما أنه إذنك فأنا راضية
وكلّما قلّ صبري وتعب قلبي ذكّرت نفسي بهذا (طالما أنّه إذنكَ يا الله فأنا راضية)
لقد أعانني هذا المعنى كثيراً، ليس سهلاً أبداً أن تدركي كنه الصبر بعيداً عن الرضا، بعد ابتلائي هذا، بدأت أضيق بابتلاءات الناس، حتى أنني بدأت أنزعج من انزعاج الناس وشكواهم، لأنني أشعر أن ابتلاءاتهم رفاهية، وأنّهم يستطيعون أن يتجاوزوها بالرضا، ولا يقفوا عندها، بدأت أملّ من نظرة الناس إلى ما يفتقدونه من أمور مادية أو معنوية، وأتساءل كيف لو شعروا بما مررتُ به؟
لا أشاركك الاسم ذاته فحسب، أشاركك أيضاً الابتلاء ذاته، بل وقد تفوقتِ عليّ به، حدّ شعوري بالخجل أمامك.
وأسأل الله أن نتشارك أيضاً مقاعد صدق عند مليك مقتدر.
هوّني عليكِ فيد الرحمن لا تكتب إلا خيرا ولا نرى صنيعه بنا إلا جميلا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم