مدونات

العقل العربي.. نقد الذات وبناء النهضة في مشروع الجابري!

مايو 30, 2025

العقل العربي.. نقد الذات وبناء النهضة في مشروع الجابري!

للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي

 

يقول محمد عابد الجابري في كتابه بنية العقل العربي:

“إن ما ننشده اليوم من تحديث للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، مكتسبات القرن العشرين وما بعده، بل أيضًا ولربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون.”

إنّ فكرة النهضة لا تُفهم إلا كفعل معرفي ينطلق من مساءلة العقل ذاته، فالعقل هو المنشئ الأكبر للعالم، والمرآة التي تنعكس عليها تصورات الإنسان حول ذاته وحول محيطه. ولأن العقل هو وسيلة الإنسان لفهم العالم وإعادة إنتاجه، فإن أي مشروع للنهضة لا يمكن أن يستقيم دون نقدٍ شاملٍ لآليات هذا العقل وأدواته. وهكذا، يصبح العقل العربي بالنسبة للجابري الميدان الذي ينبغي أن يبدأ منه أي طموح لإحداث نهضة حقيقية، لا لأنها مسألة نظرية مجردة، بل لأنها أداة فعلية لتغيير الواقع عبر تفكيك البنيات القديمة وإعادة تشكيلها بما يتوافق مع حاجات العصر.

العقل ليس كيانًا ثابتًا متعاليًا على التاريخ أو الثقافة، بل هو أداة فاعلة تتشكل في بيئتها وتعيد تشكيلها. فالجابري في مشروعه “نقد العقل العربي”، يرفض التعالي بالعقل إلى ما هو كوني ومطلق؛ فهو يرى أن العقل المُكوَّن – أي منظومة المفاهيم والقواعد التي تحكم التفكير داخل ثقافة معينة – هو نتاج لهذه الثقافة. ومن هذا المنظور، فالعقل العربي ليس استثناءً، إذ يُفهم في علاقته الجدلية بثقافته ومجتمعه، فلا يمكن عزله عن “النظام الإبستيمي” الذي ينتجه ويُنتَج داخله. هذا الفهم يدعو إلى تجاوز التصورات التقليدية للعقل كأداة معرفية محايدة، والاعتراف بأنه جزء لا يتجزأ من البنية الثقافية التي ينتمي إليها.

يثير الجابري، منذ البداية، إشكالية مفاهيمية حول تسميته “العقل العربي” بدلًا من “الإسلامي”، فهو لا يقصد بالعقل العربي مجرد أداة تفكير نابعة من التراث العربي-الإسلامي بالمطلق، بل يشير إلى بنية معرفية نشأت في سياق الثقافة العربية بمحدداتها التاريخية والاجتماعية. بهذا التصور، ينأى الجابري عن إسقاطات العقل الكوني أو تصنيفه تحت الأيديولوجيات الجاهزة، والسؤال هنا يصبح: هل يمكن فهم هذه البنية دون فصلها عن التراث؟ أم أن النهضة تتطلب قطيعة مع التراث لتأسيس عقل جديد؟

عبر تمييزه بين العقل المُكوِّن والعقل المُكوَّن، يستعيد الجابري تقليدًا إبستيمولوجيًا في فهم العلاقة بين الفعل والإنتاج المعرفي، حيث يرى أن العقل المُكوِّن هو تلك الملكة الذهنية العامة، التي تتيح للإنسان استنباط المبادئ الكلية، أما العقل المُكوَّن فهو النظام المعرفي السائد داخل ثقافة معينة. وفي سياق الثقافة العربية، يشير الجابري إلى أن العلاقة بين هذين المستويين هي علاقة تأثير وتأثر، حيث تنتج الثقافة العقل السائد الذي يعيد تشكيلها بدوره. هذا التشابك يجعل من العقل أداة تاريخية ترتبط بجذورها الثقافية.

إنّ اعتبار العقل العربي كيانًا خاصًا يعكس خصوصية ثقافية واجتماعية، لا يعني افتقاره إلى صفة الكونية داخل حدوده، فالجابري يرى أن العقل العربي يمتلك منطقه الداخلي الخاص، الذي يتطلب تفكيكًا وتحليلًا، لإدراك كيفية إنتاجه للمعرفة وكيفية تعامله مع التراث. وهذا ما يدفعه إلى استخدام منهجين متكاملين – التحليل التكويني والبنيوي – للحفر في طبقات العقل العربي، وتشخيص العوائق التي تحول دون تحديثه.

يرفض الجابري مقاربات المستشرقين التي تحلل العقل العربي من خارجه، معتبرًا أن هذه التحليلات تفتقد إلى الموضوعية بسبب انتمائها لمرجعية ثقافية مغايرة “المركزية الأوروبية”. فالعقل كما يراه الجابري، لا يمكن أن يُفهم إلا من داخله. هذا الموقف لا يقف عند حدود نقد الاستشراق، بل يمتد ليشمل الموقف من الحداثة الغربية ذاتها، بوصفها منتجًا ثقافيًا غربيًا، لا يمكن نسخه أو استيراده دون إعادة تشكيله بما يناسب البنية الثقافية العربية.

في الأخير، يقترح الجابري مشروعًا لإعادة بناء العقل العربي، يبدأ من نقد جذري للبنيات المعرفية الموروثة “التراث”، وتجاوز الأطر التقليدية التي تعيق إنتاج المعرفة. هذا المشروع كما يتصوره الجابري، لا يعني القطيعة المطلقة مع التراث، بل يستدعي إعادة قراءته من منظور جديد، يوازن بين الخصوصية الثقافية والانفتاح على الكونية. فالنهضة في جوهرها، هي فعل مزدوج: تحرر من قيود الماضي، واستيعاب مستنير للحاضر.

 

شارك

مقالات ذات صلة