أدب
لم يكتب نجيب محفوظ سيرة ذاتية، لكنه وزَّع آراءه وقصص حياته في كثير من الكتب المنوَّعة، مثل حواراته مع رجاء النقاش وجمال الغيطاني وغيرهما. بعضهم درس جانبًا بعينه من جوانب أدبه، مثل “الفكاهة عند نجيب محفوظ“، للناقد مصطفى بيومي.
وتناول جانب الفكاهة جعلني استرجع ذكريات قراءة رواية “بين القصرين“، حين تزور سلطانة متجر السيد أحمد عبد الجواد ويُهديها من البضاعة، ويسأل حمزاوي -عامل الدكان- كيف يمكن أن يسدد هذا الحساب، فيُلقى السيد أحمد على وكيله نظرة باسِمة، ويقول: “قَيِّد عندك.. بضاعة أتلفها الهوى”، ثم يغمغم وهو يمضي إلى مكتبه: “الله جميل يحب الجمال”. ويقول الناقد مصطفى بيومي: “ثمة قانون ينبغي أن نرصده في الفكاهة عند نجيب محفوظ، وهو أن الضحك من سمات الشخصية المصرية”.
بعد انتهاء معرض الكتاب وتقليب الكتب التي اشتريتُها، وقفتُ على كتاب مميَّز بعنوان “نجيب محفوظ.. عن الكتابة” للكاتب عمرو فتحي. هذا الكتاب صدر عن “دار الكرمة“، وبحَث في أرشيف حوارات نجيب محفوظ حول كل ما يخصُّ الكتابة. أراد الكاتب عمرو فتحي أن يسهم في تسليط الضوء على أهم جانب في حياة نجيب محفوظ، وهو عمله الإبداعي، ونظرات نجيب في فن الكتابة الروائية، وما اكتنف العملية الإبداعية من حكايات وقصص تخصُّ علاقته باللغة، والرقيب، وهواجس النشر.
جمَع المؤلف عمرو فتحي هذه الاقتباسات والخواطر على لسان نجيب محفوظ، وليس من خلال تحليلات النقاد. تمنَّيتُ لو ضمَّ إليها نصوص نجيب محفوظ عن القراءة، وعلاقته بالكتب، وجملةً من آرائه عن الروايات التي يذكرها في الحوارات، مثل ما قام به د. عبد الرحمن قائد في كتابه “العمر الذاهب“، إذ جمع كل النصوص المتعلقة بالقراءة والكتابة من نصوص عبد القادر المازني.
موقف من نجيب محفوظ
يبهرني نجيب محفوظ بعديد من الأمور في بنائه الروائي ومُنجَزه الفني، لكني حَذِر من توسيع مفهوم العبقرية للفنان ليشمل أمورًا كثيرة في مناحي الحياة، فأنا لا أقتنع بمزاج نجيب محفوظ السياسي، ولا أتحمَّل قراءة مقالاته، ولا تتجلى عبقريته الفنية في حواراته. يُبدِع نجيب محفوظ في مساحة فن الرواية، وتصبح ملعبه الذي يصول فيه ويجول. ولا تبهرني مواقف نجيب السياسية، خصوصًا موقفه من كامب ديفيد واتفاقية السلام، أو حتى آراؤه العامَّة في الديمقراطية والتنمية والغرب وإيمانه الشديد بالعلم كأنه حبل نجاة لبلادنا، دون الكشف عن عواقب الإيمان بالعلم دون ضوابط. هذه قضايا أرى أن نجيب محفوظ لم يتعمق في فهم إشكالياتها.
حتى عندما حاوره رجاء النقاش، أنقل هُنا تحفُّظًا أورده جلال أمين في كتابه “شخصيات لها تاريخ” عن كتاب رجاء النقاش، يصلح في مقدمة ذكر هذا الأديب الذي يذكره الناس بالحفاوة رغم أنهم أحيانًا لم يقرؤوا رواياته. يقول جلال أمين: “نجيب محفوظ، على الرغم من الشهرة الواسعة التي حققها، والنجاح الباهر الذي جلبه إليه الأدب، ناهيك بجائزة نوبل التي أتت إليه منذ عشر سنوات، وامتداد عمره إلى ما يقرب من التسعين.. على الرغم من كل ذلك، فإنَّ المرء منا كان يمكن أن يتوقع ويأمل أن يكون الأشخاص المهمُّون الذين يتحدث عنهم نجيب محفوظ أكثر بكثير ممن ورد الكلام عنهم في هذا الكتاب، والأحداث التي يُعلِّق عليها أكثر بكثير، والأماكن والبلاد التي طاف بها أكثر وأعظم، بل وحتى الشخصيات التي يتكلم عنها بالفعل، كان من المأمول أن يأتي كلامه عنها أكثر وأعمق مما حصلنا عليه بالفعل في هذا الكتاب، أو في غيره من الأحاديث التي نُشرت على لسانه، خصوصًا بعد نيله جائزة نوبل”.
هذه إشارة إلى القصور أحيانًا في اعتبارنا الروائي العظيم يستوعب كل قضايا عصره ويستطيع أن يُعبِّر عنها في المقالات والحوارات، لكن تحفظاتي على نجيب محفوظ لا تجعلني أقلِّل من نبوغه الروائي.
الكتابة الجادة
لم يتخلَّ نجيب محفوظ عن الأمل، فهو يرى أن الكتابة فعل متفائل، لأنها تؤكد أن العالم رغم ما فيه من مآسٍ، يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه. وأول ما شعرتُ به خلال قراءة نصوص “عن الكتابة” هو معاناة نجيب محفوظ مع النمرة المخادعة، أي الإمساك بتلابيب الفكرة وتحويلها إلى نص أدبي. إنَّ الكتابة بالنسبة إلى نجيب محفوظ تتحول إلى عمل يجب أن يُنجَز، ولن يُنجَز إلا بالإرادة والصبر، فهو لا يعرف دلال الإلهام، وإنما يعرف أنَّ عليه أن يجلس إلى مكتبه كل يوم ساعة أو ساعتين حتى يفرغ من العمل في عام أو عامين.
اختلف النظام الذي يتبعه نجيب في الكتابة باختلاف المراحل التي مرَّ بها في حياته. في مرحلة الوظيفة، كان يفرغ من عمله في الثانية ظُهرًا، ويعود إلى البيت لتناول الغداء، ثم يستريح لبعض الوقت، ثم يجلس على مكتبه عندما تدق الساعة الرابعة، ويبدأ بالكتابة أولًا لمدة ثلاث ساعات، ثم تليها ثلاث ساعات أخرى للقراءات المتنوعة، وكان يمنح نفسه إجازة من الأدب يومَي الخميس والجمعة.
لم يكُن جلوسه اليومي للكتابة بالأمر السهل، لأنه يقتضي أولًا أن يكون موضوع الكتابة قد اختمر في ذهنه، وكان هذا الأمر يجعله في تفكير مستمر في أثناء وجوده في الوظيفة، وفي أوقات العمل، وفي أثناء المشي، وحتى في أوقات تناول الطعام، وفي كل مرة تأتيه تفصيلة من جسم الرواية. وما الرواية إلا مجموعة تفاصيل صغيرة تتجمَّع وتكوِّن العمل الروائي في النهاية.
يبدو أن الكتابة ملكت عقل نجيب محفوظ، ففي بعض الأحيان كان يسجِّل بعض الملاحظات والأفكار العابرة التي تأتيه في أثناء وجوده خارج المنزل في ورقة صغيرة حتى لا ينساها، وكان يهتم بتسجيل هذه الملاحظات خلال فترة اهتمامه بالكتابة الواقعية. يجلس في المقهى مثلًا فتجذب اهتمامه ملاحظات وتفاصيل صغيرة كانت تفيده في أثناء الكتابة، وفي مرحلة أخرى لم تعُد لتلك التفاصيل نفس الأهمية، إذ انصبَّ الاهتمام الأكبر على الفكر والتأمل.
لا يستطيع نجيب محفوظ الكتابة إلا على مكتبه في بيته، أما خارجه فلا يمكنه الإمساك بالقلم، وكل أعماله الروائية كتبها في البيت باستثناء كتابة السيناريو للأفلام، فأغلبها كتبه في المقهى، وذلك لأنها لا تحتاج إلى نفس درجة التركيز التي تحتاج إليها الروايات. في الكتاب نقرأ أنَّ قصص نجيب محفوظ القصيرة تأتي من قلبه مباشرة، أما الأعمال الروائية الأخرى فتحتاج إلى بحث مسبق.
تصوير المكان وعصر الكاميرا
عندما بدأ نجيب الكتابة، كان يعلم أنه يكتب أسلوبًا قرأ نعيَه بقلم الروائية البريطانية فرجينيا وولف، أي نقدها للكتابة الواقعية التي غرقت فيها أوروبا، ودعوتها للكتابة النفسية أو تيار الوعي. لكن نجيب محفوظ اختار الأسلوب الواقعي، الذي تهاجمه فرجينيا، لأنه يناسب تجربته وشخصيته وزمنه. ونجيب محفوظ وهو يكتب بواقعية ينتبه إلى أن طبيعة الوصف في زمننا قد تغيرت، فهو شيء ضروري حتى تشعر بالمكان والزمان في الرواية، لكننا هذه الأيام نعيش عصر الكاميرا، وعلى الرواية أن تبحث عن مجالات لا تشترك فيها مع الكاميرا، وعلى الرواية أن تقدم شيئًا فريدًا يناسبها.
نقطة أخرى توقفتُ عندها في ذكريات محفوظ عن الكتابة، فقد وُلد في القاهرة، في أحيائها القديمة، وعَشِقَها، والكتابة عنده نوع من العشق، إما لمكان وإما لناس وإما لمثل أعلى. هذه الأحياء القديمة صارت له كل شيء، وقد جعل الحارة رمزًا للعالم كله. ولارتباط نجيب العاطفي بالمكان، جعل عديدًا من الأماكن عناوينَ لرواياته مثل “خان الخليلي” التي كان ينوي أن يسمِّيها “الحب والموت” ثم استبعد الفكرة وانتصر المكان، ورواية “زقاق المدق” التي نصحه البعض بتغيير اسمها لأنه صعب في النطق، وانتصر المكان في الأخير، ورواية “بين القصرين“، ورواية “ثرثرة فوق النيل“، كلها تدور حول المكان. الأماكن تسلَّطَت على نفسه فكأنه يتحرر من سطوة المكان بالكتابة عنه.
صراع نجيب محفوظ مع اللغة
في الكتاب شهادة مهمة عن أكبر صراع خاضه الروائي في حياته، وهو مع اللغة العربية، فمنذ أول رواية في “عبث الأقدار” قد تجد أسلوبًا قرآنيًّا، ويوم كتبها ظن نجيب أنه صنع شيئًا عظيمًا حقًّا، ومرَّت به الأيام فإذا به يرى أنها عبث أطفال، لا عبث أقدار.
وعندما قدم نجيب إلى الأدب الواقعي كان الأمر صعبًا، كان الأسلوب لا يطاوع يديه. دخل في صراع بينه وبين اللغة، لكنه لم يدرك هذا الصراع، فقد كان يدور في اللا شعور. كانت هذه الخناقة حول كيف يذلل اللغة، وكيف يطوِّعها، وكيف يكون الحوار مقبولًا مع أنه فصيح، ولذلك يرى نجيب أن بعض القصص الأولى فيه أشياء مضحكة. على سبيل المثال، قد تجد شخصية في مقهى بلديٍّ تتحدث بأسلوب فصيح متقعِّر. لم يكن أمامه مثال يحتذيه، إنه يواجه تجربة جديدة لكتابة حوارات مستمَدة من عمق الأحياء الشعبية. كان الصراع هو كيفية جعل اللغة فنية وواقعية، وهذا أصعب ما وجده أو صادفه في حياته الروائية.
ولدى نجيب محفوظ موقف مميز من العامِّيات، فلو كتبنا بالعامِّيات المحلية لاحتجنا إلى مترجمين لكي يقرأ بعضنا بعضًا. يغفل كتاب عن الكتابة قصة مهمة لنجيب محفوظ عن علاقته باللغة. يقول نجيب: “دعاني محمود محمد شاكر لزيارته، ولكني خفت منه على ما أكتب، ذلك أني لاحظت أن لغة يحيى حقي قد أُغرقت في البلاغة بعد أن توثقت علاقته بمحمود محمد شاكر، حتى إنه إذا كتب للعمال في جريدتهم «التعاون» لم يفهموه”. هذه شهادة قد تُكمِل موقف نجيب محفوظ من اللغة وتفكيره فيها.
دور الأدب في الحياة وقصص النشر
نجيب شخص يحب الأدب، شخص يؤمن بعمله ويخلص له كما يوضح الكتاب، يحب عمله أكثر مما يحب المال أو الشهرة. طبعًا لو جاء المال والمجد الشهرة فأهلًا بهما وسهلًا، ولكنهما لم يكونا قَطُّ هدفه، والسبب إخلاصه للكتابة، فهو يحبها أكثر من أي شيء آخر، ويشعر أنه من دون حضور الأدب لا معنى لحياته، إنه يحب الكتابة أكثر من حبه لنتائجها، الجائزة هي النص بغض النظر عن النتائج، كما يعبِّر عن ذلك في صفحات الكتاب.
في عام 1939 نشر سلامة موسى أول رواية لنجيب محفوظ وهي “عبث الأقدار“، وفي عام 1943 كان لدى نجيب محفوظ من المؤلفات الجاهزة “رادوبيس” و”كفاح طيبة” و”القاهرة الجديدة“، ولم يكُن لديه ناشر واحد، فضلًا عن أن جميع دُور النشر رفضت النظر في مؤلفاته الجاهزة منذ عام 1940. ثم أنشأ صديقه عبد الحميد جودة السحار لجنة النشر للجامعيين، واتفق مع نجيب على نشر جميع مؤلفاته المخزونة. ولم يحفظ نجيب محفوظ مسوَّدات رواياته، بل كانت تذهب إلى “الزبالة“، ولو احتفظ بالمسوَّدات والدراسات الشخصية لكل أبطال أعماله، لكان سيحتاج إلى ببيت آخر ليحفظها فيه، ولكانت ستُدِرُّ عليه ثروة هائلة من بيع مخطوطات رواياته بعد حصوله على جائزة نوبل.
نجيب محفوظ وثورة يوليو
توقف نجيب محفوظ عن الكتابة طَوال خمس سنوات سمّاها سنوات الجفاف (1952-1956). كان ذلك بعد أنهى روايته الثلاثية وتلكأ ناشره عبد الحميد جودة السحار في نشرها لحجمها الكبير. البعض يقول إنَّ تلكُّؤ السحار كان بسبب الغيرة من نجيب محفوظ. ويصحبنا محمد شعير في كتابه “سيرة الرواية المحرمة” في أقاويل مختلفة لتفسير توقف محفوظ عن الكتابة بعد ثورة يوليو.
تعددت إجابات نجيب محفوظ التي تؤكد أن الثورة قتلت رغبة الكتابة داخله، ولعل السبب كما ينقل شعير من صلاح عيسى أن الثورة أصرَّت على أن تقتلع جيل ما بين الثورتين (1919-1952) من الخريطة السياسية المصرية، وخيَّرتهم بين أمرين لا ثالث لهما: أن يُقِرُّوها على أنها بداية تاريخ الوطن، وأن كل ما قبلها لم يكُن إلا فسادًا وخيانة، فيغتالوا بذلك تاريخهم، أو أن يلتزموا الصمت التام وينسحبوا من العمل العامِّ، ويضعوا على أفواههم أقفالًا من حديد. لذلك يقول الدباغ بطل رواية نجيب محفوظ: “كنا طليعة ثورة، فأصبحنا حطام ثورة”.
السينما والأدب
قدَّمَت السينما خدمات جليلة للأدب من وجهة نظر نجيب محفوظ، إذ إنها نشرت أعماله لغير القرَّاء. والسينما تخلق الجماهيرية الحقيقية للأدب. لكن الكاتب كمال النجمي يرى في كتابه “نجيب محفوظ وأصداء معاصريه” أنه عندما يشاهد أفلام السينما المأخوذة من روايات نجيب محفوظ يتأمل بدهشةٍ عجز فنون السينما مجتمعةً عن مجاراة فن الكتابة بمفرده في عمق التعبير وامتداده داخل النفس البشرية والمجتمع والكون، وكثيرًا ما يجد السينما بفنونها الجبارة قاصرة عن تصوير الحياة والكون كما تصورهما الكتابة.
لكن السينما كثيرًا ما وقفت بتعبيرها على قدم المساواة مع تعبير الروائيين الممتازين، وكثيرًا ما بعثت السينما حياة قوية في كتابات فقيرة إلى نبض الحياة، ولفَّقت فنًّا لكتابات عاطلة عن الفن! لكن النجمي بعد أن يُقِرَّ بذلك يرى أن روايات نجيب محفوظ غير محظوظة، فالسينمائيون يبذلون في إعدادها للسينما كل جهد، ثم لا يُتاح لهم أن ينقلوا من تعبيرها الفني إلى شاشة السينما إلا ما تيسَّر، كأنهم يقفون منها على بحرٍ لا ساحل له!
كان نجيب محفوظ يكتب للقرَّاء، فكان يُعطي روايته لمنتِج أو لمخرِج ويقول له: “أنت حُرٌّ في ما تفعله فيها، ومَن يُرِد قراءتي فلْيقرأ الكتاب”. واتضح لنجيب خطأ هذا الاعتقاد لاحقًا، لأنَّ الغالبية الساحقة تشاهد دون أن تقرأ. نجيب معروف على مستوى الشعب المصري، لكنه ليس كاتبًا شعبيًّا، والمقصود من الكاتب الشعبي الكاتب صاحب جمهور كبير من عموم الشعب كما يعبّر عن ذلك في الكتاب.
استكملتُ رحلتي في كتاب “عن الكتابة” وأنا أحاول النظر في عالم نجيب محفوظ والاقتراب من رؤيته، ثمة كثير من اللقطات التي أودُّ الوقوف عندها، مثل: مِن أين يستمدُّ نجيب شخصياته؟ هل من الواقع أم من الخيال؟ وما قصته مع الرقابة؟ وخفايا رواياته الشهيرة … في الحلقة القادمة.