مدونات
للكاتب: ظاهر صالح
في قطاع غزة، لا يطرق الموت الأبواب، بل يهدمها على رؤوس الأطفال والنساء. هناك، تبكي الأمهات على فلذات أكبادهن المحترقة، بينما يواصل العالم تجاهل هذه الحقيقة المُرّة. ما يحدث هو محرقة وإبادة جماعية مكتملة الأركان، تُرتكب على مرأى ومسمع من الجميع.
في واحدة من أفظع صور الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق المدنيين في قطاع غزة، تجسّدت فاجعة إنسانية مؤلمة، بطلتها طبيبة فلسطينية أصبحت شاهدة على احتراق أطفالها.
الطبيبة آلاء النجار، اختصاصية الأطفال العاملة في مجمع ناصر الطبي، لم تكن تتوقع أن يتحول مكان عملها إلى بؤرة لوجعها الشخصي، حين فوجئت بوصول جثامين وأشلاء متفحمة لتسعة من أطفالها، إثر غارة جوية استهدفت منزلها في منطقة قيزان النجار جنوب خان يونس.
في صباح ذلك اليوم المأساوي، غادرت الطبيبة آلاء منزلها برفقة زوجها الطبيب حمدي النجار، الذي سرعان ما عاد بعد أن أوصلها إلى المستشفى. بعد دقائق معدودة، قصفت الطائرات الحربية منزل العائلة، محولة إياه إلى رماد متفحم، ومسوّية جدرانه بالأرض.
تمكنت فرق الدفاع المدني التي سارعت إلى الموقع من انتشال جثامين تسعة أطفال، بينهم ثمانية متفحمين بالكامل، بينما أُصيب الزوج بجروح بالغة، ونُقل إلى العناية المركزة.
عندما رأت الطبيبة أطفالها يصلون الواحد تلو الآخر إلى المستشفى الذي تعمل فيه، انهارت عصبيًا بشكل كامل، وعجزت حتى عن التعرف على ملامحهم، بعد أن مزّقت القذائف أجسادهم الغضّة الصغيرة.
الأطفال الذين استُشهدوا هم: يحيى، وركان، ورسلان، وجبران، وإيف، وريفان، وسيدين، ولقمان، وسيدرا. أما الطفل العاشر، آدم، فقد نجا بجروح، ويتلقى العلاج هو الآخر في مجمع ناصر.
هذه الحادثة المروعة ليست مجرد مأساة شخصية لأسرة فلسطينية، بل هي تجسيد للمأساة الجماعية التي يعيشها سكان غزة بلا توقف. فالأم هنا لم تفقد أبناءها فحسب، بل شهدت حرقهم واستقبلت بقايا أجسادهم بيدها، وهي المتخصصة في علاج الأطفال وإنقاذهم، لا توديعهم في توابيت صغيرة.
وصف المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة، الدكتور منير البرش، الحادثة بأنها نموذج لما يعيشه الكادر الطبي في غزة، مشيرًا إلى أن الاحتلال لا يكتفي بقصف المستشفيات، بل يتمادى في قتل عائلات الطواقم الطبية. وأضاف أن هذا ليس مجرد استهداف فردي، بل هو سياسة ممنهجة تهدف إلى كسر الروح الإنسانية في غزة، والقضاء على من تبقى من الشهود على المجازر البشعة التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين.
منطقة قيزان النجار، جنوب خان يونس، كانت على مدى أسابيع هدفًا رئيسيًا لحملة قصف عنيفة شنّها الاحتلال، مما خلّف مئات الشهداء والجرحى، معظمهم من النساء والأطفال. وتأتي هذه الغارات في سياق عمليات إبادة واسعة ترتكبها إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى سقوط أكثر من 176 ألف ضحية بين شهيد وجريح، وأكثر من 11 ألف مفقود تحت الأنقاض، إضافة إلى أكثر من مليون نازح بلا مأوى.
ولا تزال صور الأطفال المحترقين، والأمهات المفجوعات، تملأ شاشات العالم، دون أن تثير إلا نفاقًا دوليًا يسوّي بين القاتل والضحية، في حين توفّر الولايات المتحدة الأمريكية الغطاء الكامل لهذا العدوان، سياسيًا وعسكريًا، عبر الدعم المالي والتسليحي، واستخدام حق النقض في مجلس الأمن ضد أي قرار يدين الاحتلال أو يطالب بوقف الحرب.
لقد أثارت قصة الطبيبة آلاء النجار وأطفالها التسعة موجة صدمة وغضب على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تداول الناشطون والمغردون صور الأطفال وأسماءهم، معبرين عن فجيعتهم بهذا المشهد الذي يفوق التصور. وعلّق أحدهم قائلاً: حين تصبح جثامين أطفالك مادة لعملك الطبي، فأنت في غزة، فيما كتبت أخرى: “أوقفوا هذا الجنون.. إلى متى يُقتل الأطفال بغطاء دولي وصمت عربي مخزٍ؟”
وأكد العديد من النشطاء أن هذه الجريمة تُضاف إلى سجل طويل من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة، في ظل صمت دولي مطبق وازدواجية معايير صارخة، حيث يتم التسامح مع كل ما تفعله دولة الاحتلال، رغم مخالفته لكل القوانين الدولية واتفاقيات جنيف التي تنص على حماية المدنيين والأطفال والمستشفيات.
وتجسّد الغارة الوحشية على منزل الطبيبة آلاء، والتي أدت إلى مذبحة بحق أطفالها، عمق الجرح الفلسطيني المتجدد كل ساعة في قطاع غزة، حيث لا توجد أماكن آمنة، ولا يحترم الاحتلال حرمة المنازل أو صرخات الأطفال واستغاثة النساء، بل إن هذه الجريمة وغيرها تعكس بوضوح كيف أن الاحتلال لا يميز في استهدافه بين مدني ومقاتل، ولا بين امرأة وطفل، ولا حتى بين طبيبة تنقذ الأرواح وبين من يقصفونها ويسعون في الأرض فسادًا.
هذه الجريمة لا يمكن أن تمر دون محاسبة، لا إعلاميًا، ولا قانونيًا، ولا سياسيًا، فحين تُزهق أرواح تسعة أبرياء حرقًا في دقائق معدودة، ويُترك الناجون يواجهون العذاب الجسدي والنفسي طوال حياتهم، يصبح العالم بأسره شريكًا في الجريمة إذا استمر في الصمت والتغاضي عنها.
صحيح أن الكلمات لن تعيد الحياة ليحيى وركان وسيدرا وجبران وإخوانهم، لكن ربما يُحدث الغضب الشعبي العالمي فرقًا حقيقيًا، يوقف آلة القتل، ويحول دون وقوع المزيد من الفواجع.
أما الطبيبة آلاء النجار، التي شاء القدر أن تكون شاهدة حيّة على هذه الجريمة، فهي تجسّد صورة كل أم فلسطينية فقدت أبناءها، وكل طبيب فلسطيني يعمل في ظل الدمار، ويعالج أبناء غزة وهو ينزف معهم.