سياسة

البراغماتية ورحلة التحوّل.. من عقلية الثورة في إدلب إلى عقلية الدولة في دمشق

مايو 29, 2025

البراغماتية ورحلة التحوّل.. من عقلية الثورة في إدلب إلى عقلية الدولة في دمشق

– الحارث الموسى 


منذ سيطرة هيئة تحرير الشام على محافظة إدلب في 2017، بعد اقتتال عنيف مع أحرار الشام كان ظاهره خلافاً قائماً على رفض تحرير الشام التقارب بين تركيا وأحرار الشام التي تبنّت خطاباً معتدلاً واستبدلت “مشروع أمة” بثورة شعب، ورفعت علم الثورة السورية إلى جانب راية التوحيد، ونسّقت مع الدولة التركية لتسهيل دخول جيشها إلى المنطقة، بغرض إنشاء نقاط مراقبة تركية تنفيذاً عملياً لاتّفاق أستانا، وما سبق كان حزمة مبررات وذرائع شكلت أرضية تستند إليها الهيئة لشن هجوم هو الأعنف ضد الحركة لحماية “الجهاد” ورفض التمييع والمداهنة وبيع التضحيات، انتهى بسيطرة الهيئة على محافظة إدلب، ومعبر باب الهوى، المنفذ البري الوحيد مع تركيا وأبرز مصدر تمويل لها كسلطة أمر واقع، ليدخل بعدها أول رتل عسكري للجيش التركي برفقة وحماية عناصر هيئة تحرير الشام.

 

 

كان هذا أول موقف براغماتي يتخده أحمد الشرع آنذاك، وفاجأ الجميع بتنسيقه مع دولة عضو في الناتو، وأقيّم هذا الموقف مفصلياً ومؤسّساً لما بعده، ولا يسبقه موقف مشابه إلا إعلان فك الارتباط بتنظيم القاعدة، لتبدأ المسيرة البراغماتية للرجل، التي دشّنها بوجود إدارة مدنية هي حكومة الإنقاذ التي كانت ذراعاً مدنياً اعتمد عليه في مسيرته.

 

 

كان الشرع محباً لتوسعة رقعة السيطرة وتعزيز النفوذ والتمدد، وترسيخ قوة الحكم عبر “مركزية القرار” التي صارت أكثر من مركزية، وهو مقتنع تماماً أن المركزية أهم عامل من عوامل نجاح أي قائد، وقد عوّد جنود الهيئة أو “أبناء الجماعة” على ذلك، وكان اتفاقاً بالوعي الجمعي على المضي بهذا النفس عبر السمع والطاعة، ودون ذلك سيكون الوصول إلى دمشق حلماً صعب المنال، وبدأت محاربة الفوضى التي أفرزتها مرحلة الفصائلية الماضية وتعدد الفاعلين في الساحة.

 

 

 وهنا بدأت تتضح ملامح مرحلة الانضباط والقوانين الناظمة التي وضعت قواعد تُبنى عليها المؤسسات التي أخّرت ولادتها الحملة العسكرية الروسية ضد المناطق المحررة، وتركت آثاراً تجاوزها ممكن لكنه صعب، وكانت لحظة تاريخية أعقبت الخسارة والهزيمة الكبيرة التي تنازل بعدها الجميع للجميع مجبرين، لا سيما أنها الأكبر بعد خسارة مناطق “شرق السكة”.

 

 

 وتآلف الجميع ضمن غرفة عمليات “الفتح المبين” التي جمعت ما يقارب 15 فصيلاً على تنسيق عالي المستوى، وعمودها الفقري هيئة تحرير الشام، وأدرك الشرع حينها أن القوة والعسكرة وحدهما لا تكفيان، ولا بد من إظهار الدبلوماسية في السياسة الداخلية والخارجية والقدرة على تمكين المأسسة وتقديم نموذج حكم محلي متكامل يكون نواة تلفت الأنظار إلى الجماعة، وتبنّي رؤية واضحة تقنع الناظر مع تعاقب الأيام أن الهيئة يمكن لها مستقبلاً أن تكون شريكاً وحليفاً استراتيجياً إذا مضت في هذا المسار، ومن هنا بدأت الحكاية.

 

 

كانت الرؤية شاملة، من التخفف من أعباء الخطاب الراديكالي وإجراء مراجعة لأخطاء المرحلة الماضية وهي أولوية وضرورة مرحلة خلقت صداماً داخل الجماعة بين براغماتية الشرع وتيار أبو مالك التلي ومن يلوذ به، والذي أبدى تعنتاً واضحاً ورفضاً للدخول من هذا الباب ولم يتردد الشرع لحظة في التخلي عن أصدقاء المدرسة السلفية الجهادية، الذين أصبحوا عائقاً عند رغبته في الانتقال إلى حركة تحرر محلية والاتّجاه نحو خطاب قريب من جماهير الثورة والتدرج فيه وصولاً إلى ذروة يكون فيها الخطاب وطنياً بحتاً وإن تأخّر.

 

 

 فالتحول لا يكون بين عشية وضحاها بما يجعل أبناء الجماعة بحالة صدمة نفسية، بل بإعادة هيكلة الجناح العسكري عبر تنظيمه ضمن ألوية وصلاحيات محددة لقادتها وإحداث خطوط إنتاج وتصنيع وتطوير محلي وحفر الأنفاق وتكثيف الانتساب والتدريب ودورات رفع المستوى، وتأسيس جهاز الأمن العام بقيادة أبو أحمد حدود الذي صار لاحقاً أنس حسان خطاب وزير الداخلية في سوريا الجديدة.

 كان الجهاز بوابة لتقديم أوراق اعتماد يستثمر بها على المستوى السياسي، وكان له ذلك، بعد النجاح الكبير في تفكيك أعقد خلايا تنظيم داعش ونظام الأسد وانحدار مستوى الجريمة المنظمة إلى أدنى مستوياتها ووأد كابوس المفخخات، وتحجيم الأفراد والمجموعات المرتبطة/ المتأثرة بتنظيم القاعدة وحشر تنظيم حراس الدين في جسر الشغور لإبعاده عن مركز المنطقة كإجراء احترازي لإنهاء قدرته على إحداث مشاكل داخلية تؤثر في مسيرة التحول التي أرادها الشرع هادئة دون صخب وضجيج، وملاحقة قيادات حزب التحرير ومنع أنشطة الحزب في محافظة إدلب.

 

 

 وكان ذلك منطلقاً نحو تنسيق استخباراتي عالي المستوى مع التحالف الدولي وقد بدى واضحاً عند فرض مجموعات من جهاز الأمن العام طوقاً أمنياً حول مكان إقامة خليفة البغدادي في أطمة شمال إدلب، عند الدقائق الأولى من تنفيذ التحالف لعملية إنزال جوية ومنع الجهاز كل محاولات الأهالي للاقتراب من موقع الحادثة ومعرفة ماهيتها وتفاصيلها في تلك اللحظة.

 

 

إن ماضي الشرع الذي يراه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “صعباً” يراه الشرع نقطة قوة يتفرّد بها، وتمنحه دون غيره، إمكانات استثنائية لتصفية زملاء المدرسة التي تخرج منها ونقضها حجراً حجراً، فأهل مكة أدرى بشعابها.

 

 

بشكل متزامن، وعلى مستوى الإدارة المدنية التي كانت تحاول إظهار قدرة الانفتاح على كافة الأطراف، وإبداء النوايا الحسنة التي تعيد بناء الثقة داخلياً وخارجياً، ولم يكن ذلك ليتحقق دون السعي لتحييد محاولات التعطيل وكسب الخصوم للحيلولة دون التشتت واستنزاف الطاقة في معارك/ خلافات جانبية تؤثر سلباً في  تنفيذ رؤية المشروع، وعليه، كلّف الشرع شخصيات من الدائرة المقربة وأوكل إليهم إجراء زيارات دورية وخطب ودّ الفصائل التي عاداها سابقاً، مضطراً كما يرى، لتوحيد الساحة بالتغلّب بعد فشل كل المفاوضات والحلول الدبلوماسية آنذاك.



نجحت الهيئة ببناء تحالفات وتشبيك علاقات مع فصائل ومجموعات عسكرية وأفراد في ريف حلب الشمالي حيث مناطق النفوذ التركي، وفتحت صفحة جديدة تدرجت العلاقات فيها بشكل إيجابي حتى صارت يد الهيئة نافذة في المنطقة عبر الاستناد إلى الحلفاء، وفي غرفة عمليات الفتح المبين صارت الفصائل المعتدلة التي تتبع الجيش الحر سابقاً تتلقى كتلاً مالية من الهيئة وتلتزم بتعليماتها، ليكون اندماجاً غير معلن خشية أن يشملها التصنيف على قوائم الإرهاب، وتُلحق الضرر بآخر قلاع الثورة.



بهذه وتلك وبطريقة مباشرة وغير مباشرة وباللعب في هامش المناورات، أصبحت هيئة تحرير الشام عبر جناحها العسكري القوة الأكبر والأكثر تأثيراً في المناطق المحررة، بعد هندسته من الصفر خلال 5 سنوات بقيادة أبي الحسن الحموي (أبو حسن 600)، إحدى ركائز عملية ردع العدوان، ووزير الدفاع في سوريا الجديدة، على المستوى العسكري بنمط أكاديمي يحاكي الجيوش المنظمة وإعداد العقيدة العسكرية والشرعية للمقاتل، وتوجيهه لاستغلال فترة وقف إطلاق النار لمتابعة التحصيل العلمي في المدارس والجامعات بعد الانقطاع عن الدراسة بسبب الانشغال بميادين القتال، فيما مضى، وقد كرم الجناح العسكري عدداً كبيراً من المقاتلين الذين تخرجوا من الجامعات وأصبحوا كوادر تدير مؤسسات وتقود مفاصل حساسة في الدولة التي تُشيد أركانها اليوم.



كانت مسيرة الإدارة المدنية جيدة بعد تأمين الظروف الملائمة التي سبق ذكرها، وبدأت حينها إدارة الشؤون السياسية -الجناح السياسي لتحرير الشام- الذي يرأسه عرّاب الاعتدال “أبو عائشة”، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، الذي كان منكفّاً عن الظهور متخفياً في مكتبه يرسم السياسات العامة الداخلية والخارجية، يخط رسائل في إدلب ويبعثها إلى المجتمع الغربي، من معرض إدلب للكتاب الذي ضم آلاف العناوين من مختلف المشارب الفكرية ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دون وجود أي رقابة عليها، وقد شاهدتها شخصياً في المعرض الذي كان يمثل فرصة لدعوة شخصيات عامة لزيارة إدلب، وتميّزت آخر نسخة منه ما قبل عملية ردع العدوان، بحضور مجموعة من “اليوتيوبر” والشخصيات التي لها وصول في السوشيال ميديا، فصدّروا صورة إيجابية عن ديناميكية الحوكمة في إدلب.



 ومن هنا يرى المتابع أنه كان أكثر من معرض، وأكبر من أن يُختزل بمناسبة ثقافية عابرة، إضافة إلى اللقاءات والندوات السياسية والفكرية والأدبية التي كانت تُعقد في مقر “كتاب كافيه”، منشغلة في رسم وجه حضاري للمنطقة، ومن الرسائل ما كان يمرر من ساحة السبع بحرات التي كانت تحتضن احتفالاً مركزياً في ذكرى الثورة السورية تشرف الشؤون السياسية على كل تفاصيله، ويتوافد إليه الناس من كل فجٍّ في المحرر بحضور وسائل إعلام عالمية تدخل المنطقة بالتنسيق مع السلطة التي قدمت لها كل التسهيلات، كما قدمتها لغيرهم من الوفود الأممية التي تدخل المنطقة بشكل دوري قادمة بسيارات UN وبترفيق وحماية من جهاز الأمن العام.



كان “أبو عائشة” يدور في فلك الواقعية السياسية ويدفع الهيئة نحو الاعتدال دفعاً، ويتوجه نحو “سورنة” المشروع وتأطيره بأطر وطنية، والتأكيد في كل تصريح وبيان على ضرورة الدفاع عن المدنيين في إدلب، وهو واجب وطني وحق مشروع دون وجود أطماع أو تهديدات عابرة للحدود، لا سيما بعد التهجير القسري والمصالحات في المحافظات التي سقطت بيد النظام، وهرولة الدول نحو التطبيع، وتقلّص الدعم الدولي لرغبة السوريين في التغيير، وهذا ما يمكن لمسه في رد الرئيس أحمد الشرع على صحفي حاول إحراجه على الهواء أثناء زيارة باريس واتّهام الهيئة بتنفيذ هجمات “إرهابية” خارج الحدود، ليجيبه أن هدفنا كان مركزاً ضد النظام، قاتلناه بشرف وأمانة في بلدنا ولم نقتل الأبرياء.



اليوم، تطوي سوريا الجديدة صفحات الماضي، وإن عدنا/ عدتُ إليها كاتباً هذا المقال لاستخلاص العبر والدروس وفهم السردية واستيعاب السياق الذي يُبنى عليه في الحاضر، وحاولت جاهداً ألا أنكأ جراح الماضي، ولا أتصيّد العثرات فأوقد بها شرارة تبعث الخلاف وتتسلل من الثغرات لتزعزع الثقة وتضرب التماسك، كما يفعل خصوم الدولة السورية من ضعاف النفوس الذين اتّبعوا هواهم واختاروه عداء صفرياً، وما زالوا عالقين في الماضي ومتخندقين في الحاضر مع فلول النظام والانفصاليين بخطاب واحد يشبع عقد النقص التي تكمن في نفوسهم، تماماً كما راحوا ينشرون مقطعاً مرئياً قديماً للمتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا يهجو فيه قائد هيئة تحرير الشام، وقد جاء في مقدمة أول بيان رسمي له:


“كل من اختلفت معهم يوماً من إخواني باسم الفصائل، أهديهم اليوم سلام الدولة العزيزة الكريمة التي جمعت شتاتنا، وأسسنا بنيانها سوياً على الكرامة والعدالة والحق”.



وفي ذلك خروج من ضيق المصلحة الشخصية إلى سعة المصلحة العامة ورقي نحو الخطاب العقلاني الذي يدشّن حجر الأساس في سوريا الجديدة، بما يضمن مستقبلاً آمناً للسوريين جميعهم، وهنا مناط التفاضل.



تسارعت مسيرة التحوّل، وبدأت وفود غربية تدخل إدلب وتلتقي السيد أحمد الشرع ورئيس إدارة الشؤون السياسية أسعد الشيباني يطلعهم على العلاقة الوطيدة مع الدروز في جبل السماق، والسماح للمسيحيين بإقامة احتفالات رأس السنة في كنيسة مار يوسف بريف جسر الشغور، وفتح قنوات تواصل مع أقرانهم خارج إدلب طالباً منهم العودة إليها آمنين، مع أتمتة المؤسسات وتطوير البنية التحتية، واستجرار خدمات الكهرباء والإنترنت من تركيا وتوفيرها على مدار الساعة، وإقامة دوري كرة القدم في استاد إدلب الرياضي وتأسيس كلية الشرطة وفرض الأمن والاستقرار في المحافظة، لأن الاستثمارات والمشاريع التجارية لا تقوم في مجتمعات يسودها التوتر والاضطرابات.



 فكانت مدينة باب الهوى الصناعية والمجمعات التجارية الكبيرة قرب مدينة سرمدا، وكأن كل شيء يقول إن الجماعة المصنفة أصبحت أقرب لاحتياجات الناس وتُقدّم نفسها بديلاً وطنياً عن نظام الأسد وجزءاً من المجتمع يصعب أن ينفك أحدهما عن الآخر وإن كان يختلف مع سياستها الداخلية في مواضع دفعته للتظاهر ضدها يوماً، ويتّفق في أخرى، تتعزّز العلاقات المحلية الغربية وتتدفق الضمانات، بوقت كانت فيه شخصيات عامة كثيرة تتجنب العمل مع هيئة تحرير الشام تحت تأثير “التصنيف” الذي يرونه فزّاعة، ويراه الشرع ورقة ابتزاز سياسي عابرة.



علاوة على ذلك، يستفيد الشرع من وجود نموذجين متناقضين، الأول في إدلب حيث مركزية القرار والتنظيم والإدارة، والثاني في ريف حلب الشمالي حيث الفصائلية والتشتت والفوضى، وهذه المقارنة كانت حاضرة في كل ساعة عبر آلة “الإعلام الرديف” التي استهوت أفئدة الناس نحو إدلب، مسلّطة الضوء على كل نقطة إيجابية فيها، ومسوّقة لكل رواية تنسجها إدارة الشؤون السياسية، وكل ذلك ينتهي إلى النظرية الميكافيلية، التي ينبغي فيها أن تكون ذئباً لتهاجم، وثعلباً لتتصيّد الفرص.



إن دخول العاصمة دمشق والتكتيك في السلوكات والخطاب الموجه للداخل والخارج في معركة التحرير لم يأتِ من فراغ، والتحولات التي مرّت بها هيئة تحرير الشام والتحديات التي تجاوزتها أثمرت في لحظات تاريخية كُتب لها النجاح، وإلى جانب الميدان العسكري، كانت إدارة الشؤون السياسية تخوض المعركة في ميدانها وتصدر بيانات لافتة تتقمّص عقلية الدولة منذ الساعات الأولى في عملية ردع العدوان، يتردد صداها في الصحف العالمية ويعكس خطابها توجه تيار الاعتدال الذي كان يقوده السيد أسعد الشيباني، وقد صارت عقلية الدولة واقعاً، بسواعد الكوادر التي صقلتها الثورة السورية، وتراكمت عندها الخبرات والتجارب بعد أن عاصرت إحدى أهم المراحل في تاريخ سوريا الحديث.

شارك

مقالات ذات صلة