آراء

قراءة تحليلية لما حدث غرب رفح: صراع الأطراف والفشل المرحلي!

مايو 29, 2025

قراءة تحليلية لما حدث غرب رفح: صراع الأطراف والفشل المرحلي!

ما جرى غرب رفح مؤخراً من تزاحم بشري هائل، هو أكثر من مشهد مساعدات. هو تجاذب سرديات، وتنازع على الرأي العام، ومحاولة لتكريس مواقع القوة. فالأمر ليس مجرد فوضى عابرة أو خلل لوجستي مفاجئ، بل يبدو – في جوهره – حدثاً مركّباً نتج عن تخطيط متقابل من طرفين، كلٌّ يسعى إلى تشكيل المشهد وفق رؤيته وأهدافه لهذا المشهد. لكن وسط ذلك، تبقى الحقيقة الأشد مرارة: المدنيون الفلسطينيون هم وقود هذه المعارك غير المعلنة، وعليهم وحدهم يدفع ثمن الفوضى في كل مرة.

 

تُظهر الوقائع أن هناك نية مبيّتة لصناعة مشهد إعلامي للطرف الأول يظهر فيه الجهد الأمريكي والإسرائيلي بمظهر “المنقذ الإنساني”، حيث تم تسهيل فتح الطريق أمام الحشود الغزيّة للدخول نحو منطقة محددة خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي ولشركات التأمين الامريكية، في محاولة لبناء صورة انتصار أخلاقي أمام المجتمع الدولي وامتصاص الغضب المتزايد من المجازر والعدوان. لكن، كما في معظم الأحداث في غزة، الواقع لا يخضع دائماً للتصميم النظري. فالمشهد انقلب إلى فوضى إنسانية عارمة، وسقطت الخطّة وسقط المشهد في فخّ الميدان تحت ضغط الزحام، وانسحبت الجهات المشرفة على التوزيع بعد عجزها عن السيطرة، ليتحول ما أريد له أن يكون “مشهد خلاص” إلى دليل ميداني على الفشل في إدارة المساعدات الإنسانية. وانكشفت محدودية السيطرة على الحشود والواقع اللوجستي والأمني للمكان.

 

تنبهت حماس كطرف ثاني في المشهد، منذ اللحظة الأولى إلى الطابع السياسي والاعلامي للمشهد ليس بريئاً فعملت على تحويل السردية المرسومة إلى فوضى إنسانية ميدانية، فحاولت الحدّ من تدفق الناس نحو المكان، خشية الوقوع في الفخ الإعلامي الذي أراده الطرف الأول، لكنها حين رأت أن السيطرة على الجمهور أصبحت شبه مستحيلة وخارج السيطرة ، تحولت استراتيجيتها بدلاً من الوقوف ضد التيار، دفعت نحو تعميق موجة الزحف الجماهيري، لتُعيد رسم المشهد لصالحها، لتعيد تشكيل الرواية على النحو الذي يخدم خطابها، ولتحوّل الفوضى إلى رسالة سياسية مفادها: “لا يمكن التحكم في الشعب الفلسطيني عبر مسارات إنسانية مشروطة أو مشاهد مدفوعة بإرادة خارجية، ولا يمكن تحويل المعونة إلى أداة ابتزاز سياسي”.

 

انسحاب الشركة الأمريكية والجهات المشرفة على التوزيع، تحت ضغط الفوضى، كشف هشاشة التخطيط من الطرف الأول، وقدرة الطرف الثاني على تحويل الهجوم إلى فرصة ميدانية تعزز من موقفه. لكن، في نهاية المطاف، لا الطرف الأول نجح في صناعة صورة انتصار إعلامي فقد فشل في تثبيت صورة “المخلّص”، ولا الطرف الثاني تمكن من الحفاظ على تماسك المشهد دون خسائر أو تهديد للمدنيين، أو في تقديم بديل واضح لتنظيم المساعدات. ما حصل هو فشل مرحلي مزدوج، ليبقى المشهد مفتوح، فأي من الطرفين سيُفلح في تحويل هذه المعركة الرمزية – معركة المعونات – إلى نقطة قوة؟ الإجابة ليست محسومة بعد. فالمشهد ما زال مفتوحاً، والساحة الغزية معقّدة، والمتغيرات متعددة. لكن ما هو مؤكّد أن الأيام المقبلة وحدها ستكشف من سيتقن إدارة الصورة، ومن سيُحسن توظيفها لصالح قضيته.

 

الجولة القادمة ستكون مختلفة تماماً. إذ من المتوقع أن يعيد الطرف الأول ترتيب أوراقه بقبضة أمنية أكثر صرامة وتنظيم لوجستي محكم، يشمل مراجعة الأدوات المستخدمة في إدارة الحشود الإنسانية، وتفعيل نماذج إدارة أزمات متقدمة قائمة على وسائل الرقابة. بينما سيسعى الطرف الآخر لتثبيت معادلة جديدة: إما التنسيق معه أو لا معونات أصلاً. من خلال تفعيل سيناريوهات الطوارئ التي تعالج التفكير الاستراتيجي للطرف الأول، وكيفية التعامل مع الأزمات باحترافية ومسؤولية جماعية. وربما يدخل المجتمع الغزي كطرف ثالث ليعزز من سيطرة ورؤية أحد الطرفين الرئيسين. فهو وإن اندفع بفطرته نحو النجاة والغذاء، يدرك جيداً من تجارب سابقة أن التوجه نحو مناطق تخضع للسيطرة الإسرائيلية يتطلب انضباطاً دقيقاً والتزاماً صارماً، وأن أي تجاوز قد يُكلّف الأرواح. وربما هذا الوعي الاجتماعي المتراكم سيحول دون تكرار نفس الفوضى، وسيفرض سلوكاً أكثر تنظيماً، حتى ولو لم يكن ذلك بإرادة فردية، بل بدافع البقاء والخوف من الهلاك.

 

وسط هذا الصراع المركّب، يظل المواطن الفلسطيني هو الضحية الكبرى. فالناس الذين تدافعوا نحو الطعام والماء لم يكونوا طرفاً في التخطيط، بل أسرى الحاجة والخوف. لكنهم – في نظر اللاعبين الكبار – مجرد أدوات في صورة، أو أرقام في سردية أكبر. فما حدث غرب رفح هو نموذج مصغّر لصراع الإرادات في غزة. صراع لا يدور فقط على الأرض، بل على الصورة، والسردية، والموقف الدولي. قد تفشل خطة اليوم، وتُعدّل خطة الغد، لكنّ الأكيد أن من ينجح في تنظيم هذه المعركة الرمزية حول المساعدات، يقترب أكثر من التحكم في المعركة الكبرى على مستقبل غزة.

شارك

مقالات ذات صلة